الدكتور خالد قباني
شكوى من "أطفال لبنان" إلى القاضي الدكتور خالد قباني
اتوجه اليكم باسم اطفال لبنان بصفتكم القاضي النزيه والمتجرد لتحكم في قضية خطيرة تتمثل بعدم فتح ابواب المدارس الرسمية امام الأطفال بسبب عدم دفع الرسوم في حين يبقى الكثير من المقاعد شاغراً، وهذا يشكل انتهاكا فاضحا لإتفاقية حقوق الطفل المصادق عليها منذ عام 1991، وللقانون 686 الخاص بمجانية التعليم الصادر عام 1998، وذلك يشكّل تنازلا عن ابسط واجبات الدولة للغير وهدراً للمال العام.
وما دفعني الى الكتابة اليكم هو كم كبير من الأسئلة مترافقة مع مشاعر متناقضة راودتني وانا اشاهد التلفاز ينقل الينا من القصر الحكومي التصريح الصحافي الذي قدمه سعادة سفير المملكة العربية السعودية الشقيقة الدكتور عبد العزيز خوجة، وبحضور دولة الرئيس فؤاد السنيورة عن هبة بعشرين مليون دولار لتغطية رسوم تسجيل تلامذة المدارس الرسمية، وهي تأتي في سياق الدعم المستمر للمملكة للبنان على مدى اكثر من ثلاثة عقود من المحن المتوالية التي عاشها ولا يزال.
لقد اثار هذا المشهد لدي شعوراً متناقضاً، يكاد يكون انفصاميا: شعوراً بالتقدير والإحترام للمملكة وسفيرها على هذه البادرة من جهة وبركاناً من الألم على المهانة والمذلة التي يعيشها الفقراء في بلدنا، وممارسات الطبقة السياسية الحاكمة والتي تعمل على تعميم ظاهرة المساعدات الخارجية لحل كل مشاكلنا، متخطية ما هو مقبول في عرف العلاقات الدولية (المساعدات لتخفيف عبء الدين، لإعادة اعمار ما تهدم من جسور ومستشفيات ومدارس وتجهيزها، او مشاريع تنموية وبناء قدرات...) لتصل الى الحلول محل الدولة في واجبات اساسية كدفع رسوم التسجيل في المدارس الرسمية ومحاولة تعميم ممارسات مشابهة وتكرارها سنويا لجعلها نمط عيش يستحق ان نورثه للأجيال الطالعة.
السنة الماضية قدمت دولة الإمارات العربية مشكورة الكتاب المدرسي المجاني، والمملكة العربية السعودية رسوم التسجيل، ترى اية دولة عربية ستشفق على فقراء شعبنا لتقدم لهم الكتب والقرطاسية، الشنط والمراويل؟ ماذا عن السنة المقبلة؟ بئس المصير الذي وصلنا اليه. بلد العلم والنور. البلد المشارك في صياغة اعلان حقوق الإنسان (1948) وحقوق الطفل (1989) والمصادق على هذه وغيرها من الإتفاقات والمواثيق التي تنص كلها على الحق في التعليم الجيد المجاني والإلزامي، ولا ننسى ان المجلس النيابي اصدر بتاريخ 16/3/1998 القانون 686 الذي يؤكد على الزامية التعليم الأساسي ومجانيته حتى عمر 12 كمرحلة اولى على ان تليها مرحلة ثانية ترفع سن التعليم الإلزامي المجاني الى عمر15 سنة (نهاية الحلقة الثالثة للتعليم الأساسي)، وطلب من الحكومة ان تصدر المراسيم التطبيقية لتطبيق هذا القانون.
لقد جاء هذا القانون كنتيجة لإلتزام لبنان بالمواثيق والإتفاقات الدولية والمتابعة النشطة للمنظمات الدولية خصوصا "اليونيسيف" و"الاونيسكو" واستجابة لتحركات قامت بها فاعليات المجتمع المدني: المجلس الأعلى للطفولة، وتحركات للأهالي خصوصا في محافظات الأطراف كالشمال والبقاع ومشاركة اللجان النيابية وتجاوب مجلس النواب.
ولا بد هنا من ذكر بعض الملاحظات التي سجلتها اللجنة الدولية لحقوق الطفل حول التقرير الوطني الثالث والمسجلة في محضر اللجنة في 2 حزيران 2006:
"تنظر اللجنة بقلق ان الآباء لا يزالون يحملون بعض تكاليف التعليم على الرغم من ان القانون يكفل توفير التعليم المجاني في المرحلة الإبتدائية... وتوصي الحكومة اللبنانية بضمان مجانية التعليم واتاحة الإلتحاق لكل الأطفال".
ففي الوقت الذي ارسى فيه هذا القانون القاعدة لحقوق مكتسبة لأطفال لبنان بالتعليم الجيد المجاني، الا انه يفتقر الى الآلية العملية لتطبيقه. ونرى من المفيد استعراض سريع لما جرى منذ ذلك الوقت:
-1 نفذت دراسة عن كلفة مجانية التعليم والزاميته: الحاجة الى التعليم الرسمي بدعم من "اليونيسيف" والبنك الدولي.
-2 تم وضع خطة لتعميم التعليم للجميع (2000 -2015) بدعم تقني من المنظمات الدولية جرت مراجعتها وتنقيحها من قبل كل الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارة، ولكن لم تعرض حتى تاريخه على مجلس الوزراء، وها نحن على ابواب المراجعة النصف مرحلية (شباط 2008) وربما يكون لبنان الى جانب الصومال من الدول العربية القليلة التي لم تقر خطة حتى الآن.
-3 يعمل على وضع خريطة مدرسية تشير بوضوح الى ان حوالى نصف المدارس الرسمية (حوالى 700) يجب اقفالها او تجميعها والأخطر انها قادرة على استيعاب حوالى 200 الف تلميذ اضافي دون الحاجة الى معلمين اضافيين لأن النسبة هي معلم لكل 9 تلامذة (من اعلى النسب في العالم) اي ضعف النسبة في القطاع الخاص غير المجاني.
-4 اطلقت وزارة التربية (المركز التربوي للبحوث والإنماء والمديرية العامة للتربية) ومنظمة "اليونيسيف" والبلديات مشروعا لتدوير الكتاب المدرسي يهدف الى تأمينه للسنوات التي يغطيها القانون أي الحلقتين الأولى والثانية وذلك في اول عام دراسي يلي القانون اي العام الدراسي 98/99.
حددت اهداف المشروع على النحو التالي:
- اختبار امكان تطبيق "تدوير الكتاب" في المدرسة الرسمية في المرحلة المشمولة بقانون إلزامية التعليم ومجانيته.
- تقدير كلفة المشروع في حال اعتماده على الصعيد الوطني.
- تعزيز الروابط بين المدرسة الرسمية ومحيطها من خلال إشراك البلديات ومجالس الأهل في الإشراف المباشر على تنفيذ المشروع.
لقد تمكن المشروع من الوصول الى 117 مدرسة واستفاد منه ما يزيد عن 40 الف تلميذ. عام 2002 تم تكليف مكتب للأبحاث بتقويم التجربة وجاءت النتائج ايجابية وقدرت الكلفة في حينه بحوالى 12 مليون دولار موزعة على ثماني سنوات يصبح بعدها المشروع قادراً على كلفته، والدراسة موجودة لدى المعنيين في وزارة التربية. توقف البرنامج ويا للاسف، منذ 2004 بعد ان طلبت "اليونيسيف" من الدولة اتخاذ القرار المناسب وتحمل مسؤولية الإستمرارية كما كان الإتفاق عند اطلاق المشروع.
لو قدر لهذا البرنامج ان يستمر لكان قادرا على الإستفادة من الهبة الإماراتية واستطاع ان يتحول الى مشروع وطني رائد وحل دائم لمشكلة الكتاب المدرسي في المرحلة الإلزامية على الأقل، في حين لم تتجاوز مفاعيل الهبة عاما واحدا وعادت الشكوى من جديد. حقا إن قطاعنا العام (برغم دعم المسؤولين في الوزارة مركزيا وفي المناطق التربوية ودورهم في انجاح المشروع) لدية قدرة فائقة على خنق التجارب الناجحة ودفنها مهيلا عليها التراب دون حسرة!!
-5 بعد اصدار القانون ومع مطلع كل عام دراسي نظمت التظاهرات المطالبة بالإعفاء من الرسوم وتأمين الكتب واحيانا بفتح مدارس حيث الحاجة، وكان مجلس الوزراء يتجاوب فيتم الإعفاء من الرسوم لمرة واحدة فقط. وهكذا تأتي الهبة السعودية كغيرها من الخطوات التسكينية السابقة ولتعبر عن مأزق العلاقة بين الحكومة ومواطنيها، علاقة مبنية على الصدقة وليس على الإلتزام بالحقوق.
ما هي الخصائص الإجتماعية للأسر
التي ترسل ابناءها الى المدرسة الرسمية؟
تشير الإحصائيات الى ان اكثر من 80% من الأسر التي ينتمي اليها تلامذة المدرسة الرسمية غير مشمولين بأي ضمان مقابل 35% في المدارس الأخرى. والمضمونون الذين يقبلون بارسال ابنائهم الى المدارس الرسمية هم من الفئات الدنيا للشرائح المشمولة بالضمان ومن سكان المناطق الريفية. وفي الدراسات الموثقة التى نفذتها ادارة الإحصاء المركزي والمنظمات الدولية ان وفيات الأطفال في السنوات الخمس الأولى من العمر اعلى مرتين، والإلتحاق المدرسي ادنى، والتسرب خارج المدرسة من 4 الى 5 اضعاف عند الأسر غير المشمولة بأي شكل من الضمان مقارنة بأطفال الأسر المنتسبة الى احد صندوق الضمان وتعاونيات الدولة.
لقد تكلم اتفاق الطائف عن الإنماء المتوازن بين المناطق ونحن من الذين شاركوا في الدراسات والأبحاث حول هذا الموضوع، ولكن لهذه الحقيقة وجهها الآخر: التفاوت واللامساواة بين الفئات الإجتماعية بما فيها عطاءات الدولة السخية على الفئات العليا من المسؤولين، وبعض فئات الموظفين، في حين تترك فقراءها (المزارعين والمياومين والمعوقين والعاطلين عن العمل وغيرهم من الفئات الفقيرة والمهمشة) بدون حقوق بل تتركهم لمساعدات تقدمها الهيئات المدنية والدينية من الداخل ومن الخارج، وهذا اكثر ايلاما وربما خطرا لانه ليس كل الداخل ولا كل الخارج جمعيات وخيرية فقط.
المواطن لا يحفظ لدولته الجميل لأن الناس تقدر الحاضر وتنسى الغائب. هكذا تفك الدولة علاقتها بقسم كبير من ابنائها بتخليها عن رعاية شرائح هي من اكثر الناس التصاقا بالأرض والوطن فهي الأقل ميلا للهجرة والأكثر قدرة على تحمل شظف العيش والخاسر في النهاية هو لبنان الوطن.
إن للمشكلة وجهاً آخر يتمثل بالواقع المتردي للمدرسة الرسمية: إذا كان التعليم هو الحل كما اشرنا فإن واقع المدرسة الرسمية لا يوفر دائما الجودة والمواصفات المطلوبة، فهو يشكو من تقليديته وضعف العناصر الأساسية للتحصيل التعلمي (اللغات والتكنولوجيا والرياضيات) وكثرة الرسوب والتسرب وعدم ملاءمته لإحتياجات السوق المتجددة باستمرار وهذا ما سجلته اللجنة الدولية لحقوق الطفل في تقريرها: "تعرب اللجنة عن قلقها من ارتفاع معدلات الرسوب والتسرب ومن النوعية المتخلفة للتعليم النظامي والتدريب المهني والتقني وحجم الفوارق بين نوعية التعليم الرسمي والخاص، والتفاوت بين المناطق، وعدم كفاية تدريب غالبية المدرسين، وسوء حالة المباني وعدم كفاية نوعية وتوافر المواد والمعدات التعليمية" وعدم توافرها.
برغم ذلك فإن الأمور في المدرسة الرسمية ويا للأسف لا تجري بما تشتهون ومعكم كل المخلصين لوطنهم. فالذي نعرفه من المعاينة اليومية وما تطالعنا به الصحف، منذ بداية العام الدراسي لا يطمئن ابدا: فبالاضافة الى تأخر الآلاف من الأسر في تسجيل اطفالها في المدرسة الرسمية لأسباب مادية او بانتظار محسن ما (داخلي او خارجي) يتحمل عنها عبء الأقساط، وهذه سياسة مورست منذ فترة والنتيجة كانت تعثر انطلاق المدرسة الرسمية كما سنرى ذلك تفصيلا، يضاف اليها تردد الأهل في ارسال اولادهم الى المدرسة الرسمية لأن المدرسة الخاصة، وبالتحديد التابعة للمؤسسات والجمعيات الدينية أو الحزبية تحظى بثقة الناس لأنها مجهزة افضل ومعلموها وادارتها يخضعون لمعايير الكفاية والثواب والعقاب، وهي تقدم تسهيلات متنوعة للأسر المحتاجة، والأهم انها تبدأ الدراسة بزخم وقبل المدرسة الرسمية ولا تعيش اضرابات معلمين بالوتيرة القائمة في القطاع العام، واخيرا تفضيل المدرسة الخاصة المنتمية الى المذهب نفسه او الحزب لأنها توحي بالأمان اكثر بعد احداث العام الدراسي الماضي. كل هذه العوامل تعمل لصالح المدرسة الخاصة الدينية والحزبية (بشقيها نصف المجانية، المدعومة من وزارتي التربية والشؤون الإجتماعية أو الخاص المدعوم من الجهة الدينية والحزبية المعنية).
كما تعاني المدرسة الرسمية هذه الأيام من انتقال العديد من المعلمين المتعاقدين والكفايات المميزة من الأساتذة المتفرغين الى القطاع التعليمي الخاص أو الى العمل لدى القوات الدولية او الهجرة الى البلدان العربية لماذا؟ المعاش يسد الرمق ولكن لا مجال لحياة افضل، لأننا في القطاع العام نساوي بين المبدع والكسول والمواظب والغائب، نخضع تعيين المدراء للمحسوبية بدل الكفاية، اليس كذلك يا حضرة القاضي؟ وانت بحكم المسؤولية تملك المعلومات وربما الوثائق عن هذه وتلك من التجاوزات التي تعج بها الوزارة وسائر ادارات الدولة. وفي هذا السياق علينا ألا ننسى الدراسة التي انجزها المركز التربوي بدعم البنك الدولي ومنظمة "اليونيسيف" والتي صدرت في العام 2000 والتي ابرزت ان متوسط الكلفة السنوية للتلميذ على الصعيد الوطني كالآتي:
في المدرسة الرسمية 1٫904٫000 ل.ل.
في المدرسة الخاصة غير المجانية: 2274000 ل.ل.
ان هذه الأرقام بالغة الدلالة فالكلفة متقاربة الى حد بعيد اما الحاصل التعلمي والرسوب والتسرب ونظرة المجتمع الى كل منها فكل الدراسات الرسمية والدولية تشير الى تفوق المدرسة الخاصة، وهذا يحتاج الى تأمل وارادة سياسية لتطبيق عملية اصلاحية تكمل بعض الانجازات السابقة التي حققتها خطة النهوض التربوي في مجال المناهج التربوية الجديدة (برغم ثغراتها) في التعليم الأكاديمي والمهني وبناء المدارس والمهنيات وتجهيزها وتحديث اساليب التعليم وادخال التكنولوجيا الى كل المراحل وتحديث اداراتها ومكننة كاملة لها، وانجازات الحركة الشعبية والبلديات التي سبقت القانون 686 وتلته في دعم المدرسة الرسمية ولكنها، ويا للأسف لم تتمكن من وقف تدهورها.
سعادة القاضي،
باختصار ان اطفال لبنان يعانون من ظلم مزدوج: لا مساواة في العطاءات ولا مساواة في التحصيل التعلمي وهذه لن تبني مواطنا صالحا ولا تصلح لتكون اداة للوصول الى تطبيق اتفاقية حقوق الطفل لأن "الذي يبنى على خطأ هو خطأ ايضا". لم تعش الأسر في البلدان المتقدمة ومنذ زمن ما قبل البحبوحة الإقتصادية المعاصرة مشكلة تسجيل ابنائها في المدارس الرسمية أو دفع اقساط وسائر مستلزمات التعليم لأن الدولة تدرج في موازناتها السنوية بشكل ثابت المنحة الشهرية لكل طفل تبدأ الأسرة بتلقيها ابتداء من الشهر السابع للحمل (اي قبل الولادة بشهرين!!!) وتستمر حتى عمر 15 سنة (والبعض رفعها منذ سنوات الى عمر 18 سنة بالتساوي بين الأطفال المقيمين بغض النظر عن الوضع الإجتماعي للأسرة، ولا فرق لعرق او جنس. بكلام اخر حق الطفل في الحياة والتعلم تتشاركه الدولة والأهل. اليس هذا احد الأسباب الوجيهة لتعلق الفرد هناك بوطنه؟ والعكس هنا صحيح ايضا!! كيف لحكومة تعمل لمستقبل بلدها (واطفالها هم هذا المستقبل) أن تحرمهم من بدء الدراسة في الموعد المحدد بسبب عدم دفع الرسوم؟ الألوف من الأطفال كما يعلم الجميع يتسجلون بعد بدء العام الدراسي والألوف ينتظرون رحمة تأتيهم (من غير حكومتهم) لإلغاء الرسوم، والمقاعد فارغة كما اشرنا سابقا، فكانت الهبة الكريمة ولكن بعد شهر من بدء الدراسة. هل فقدان عشرات الألوف لعشرين يوم دراسي من اصل 146 يوما هومجموع العام الدراسي الكامل (وهو من الأقصر في العالم) لايحرك في المسؤولين شيئا.
إن كلفة يوم تعليمي للتلميذ في المدرسة الرسمية بحسب الدراسات الموثقة يناهز 15 الف ل.ل.
اين الجدوى والحكمة من مثل هذه الممارسات؟ اهكذا يمكن ان تزداد الثقة بالمدرسة الرسمية؟ اهكذا سيتحسن التحصيل التعليمي؟ اهكذا يدار المال العام؟ ناهيك بالحقوق التي كفلها الدستور والإتفاقات الدولية التي صادقت عليها دولتنا والتي لحسن الحظ لا تخضع للتأويلات والإجتهادات التي يعاني بسببها بلدنا الويلات في هذه المرحلة. إن اتفاقية حقوق الطفل تنص على مسؤولية الأهل والزامهم بارسال ابنائهم الى المدرسة ولكنها استدركت بالقول "اذا تعذر عليهم ذلك لسبب مادي فعلى الدولة ان تدعم الأهل في مسؤوليتهم، وإذا كانوا عاجزين عن تحمل مسؤوليتهم الأبوية فإن المصلحة الفضلى للطفل تتطلب من الدولة تحمل مسؤوليتها في الرعاية الكاملة بما فيها التعليم".
اعتقد ان احدا لا يستطيع ان يعطي مثالا واحداً من بلدان اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، اي في مرحلة اعادة البناء التي اعقبت الحرب والتي عانت خلالها من الجوع والفقر كثمن موقت لإعادة الإعمار والإنطلاق مجددا. وقبلت بمشروع مارشال الأميركي الذي مدها بالمساعدات للتنمية واعادة الإعمار، على قبول تسجيل "مأثرة" الطلب من احد بدفع رسوم تسجيل اطفالها في المدارس او قبول هبة من أحد لتغطيتها لأنها آمنت بحق التعليم لكل طفل من ابنائها فلا رسوم قبل الحرب ولم تلغها بسببها.
نعم يا سعادة القاضي،
بلدنا يحتاج الى كثير من المساعدات وسنبقى ويا للأسف لعقود وعقود نحتاج اليها ولكن في اي ظرف هل تقبل حكومتنا هبة لدفع معاشات الوزراء او النواب أو.. حتى معاشات الموظفين؟ بالتأكيد لا؟ لأن في ذلك مساً بالكرامة الوطنية وبهيبة الدولة واستقلاليتها؟
في الختام اتوجه الى القاضي العصامي والمنحاز الى العدالة الدكتور خالد قباني ان يحكم بدعوى يقيمها الأطفال الذين حرموا من الدراسة او خسروا شهرا بالتمام والكمال من الدراسة ضد حكومتهم استنادا الى القوانين المبرمة والإتفاقات الدولية المصادق عليها.
إن غياب طفل عن المدرسة بدون عذر يستدعي جلب اهله الى المدرسة للمساءلة عن الأسباب، فحري بحرمان آلاف الأطفال من حقهم في التعليم وترك المقاعد فارغة في المدارس الرسمية ان يجلب المعنيين الى قوس العدالة بتهمة مخالفة القوانين والإتفاقات الدولية وهدر المال العام.
وحتى نتشارك المسؤولية في اقتراح الحلول والمساهمة في تنفيذها نتقدم بأربعة اقتراحات: ثلاثة منها الى الحكومة (وزارة التربية)، والرابع موجه الى المجتمع المدني بكل اطيافه:
1 - الغاء الرسوم، وهذا في رأيي لا يحتاج الى قانون جديد من مجلس النواب فقانون 686 واستنادا الى مراسيم سابقة بتوسيع الإلغاء ليشمل كل المراحل، يكفي، دون التراجع عن الجهود التي بذلت لإصدار قانون جديد من مجلس النواب مع آلية واضحة للتطبيق (وشرف لي انني ساهمت في اقتراحه وصوغ بنوده).
2 - تعميم تجربة تدوير الكتاب المدرسي في السنوات التي شملها القانون كمرحلة اولى. و الدراسة موجودة والخبرات موجودة ومتطوعة لدعمكم في هذا المجال وهي بالتأكيد قابلة لتشمل المراحل العليا بحسب التجارب في العديد من الثانويات الرسمية بدعم من بعض الجمعيات العالمية.
3 - تطوير وتعميم تجربة التوجيه والإرشاد التربوي لما لها من اثر في الحد من الرسوب والتسرب وتحضير الواقع لدمج ذوي الحاجات التربوية الخاصة.
4 - تطوير التجارب التي انطلقت منذ فترة من اجل النهوض بالمدرسة الرسمية كاللجنة الوطنية لدعم المدرسة الرسمية، والتي ترأسها السيدة بهية الحريري الى مبادرة المجلس الأعلى للطفولة ومعه العديد من الجمعيات الأهلية في التوعية والتعبئة على تطبيق اتفاقية حقوق الطفل، الى مبادرات محلية من منظمات وجمعيات وبلديات ورجال اعمال ومؤسسات خاصة للتعبئة في اطر عمل مرنة موحدة الهدف ومفتوحة للجميع وعلى كل المستويات مركزيا وصولا حتى مستوى البلدة، تكون داعمة لجهود الدولة ولكنها مستقلة عنها لتدعم وتضغط في الوقت نفسه.
انها افكار واضحة عملية وتحتاج فقط الى بضعة ملايين سنويا لاتساوي شيئا امام ارقام الموازنة ولا عجزها، وفي كل الأحوال نهدر اضعاف اضعافها، وانا من دعاة الضرائب الهادفة (ضريبة خاصة لتطبيق كامل لمجانية التعليم على سبيل المثال) بدل الضرائب التي تزداد عام بعد عام وتنتقل احوالنا من سيء الى اسوأ والديون تزداد عاماً بعد عام. انها خطوة صغيرة ولكنها تفتح الآفاق على مستقبل افضل عنوانه: "تأمين حق كل طفل في التعليم الأساسي ودعم المدرسة الرسمية".
لم التق لبنانيا اليوم الا ويسأل: الوطن الى اين؟ نحن الى اين؟ الكل خائف والثقة بالطبقة السياسية متدنية جدا. في عز الحرب الأهلية وبعدها، وعلى امتداد عشرين عاما، كانت لي تجربة وانا أعمل في منظمة "اليونيسيف" وكان الإنقسام في أوجه، وكنت اجول المناطق كلها ونعقد الإجتماعات مع كل العاملين في حقل الرعاية الصحية والخدمات الإجتماعية في كل الأقضية بانتظام وسنويا وخلصت الى نتيجة راسخة هي ان الإنقسام الطائفي والمذهبي هو سياسي بالدرجة الأولى ومصدره الزعامات وامراء الحرب الأهلية ومصالحهم الضيقة. وان الناس عندما تكلمها بلغة المصلحة الوطنية والحق بالصحة والتعليم والكرامة فستجد شعبا واحدا ولبنانا واحدا من وادي خالد الى الناقورة في اقصى الجنوب، مرورا بالعاصمة وضاحيتها. من طرابلس الى جبيل وكسروان الى الشوف، من الهرمل وبعلبك الى زحلة الى جب جنين وشبعا حتى تلال كفرشوبا.
واليوم وبرغم كل ما يقال عن احتمالات الحرب بين اللبنانيين فسيخسر المراهنون عليها والمروجون لها لأن الحرب بين اللبنانيين انتهت إلى غير رجعة وشعبنا لن يلدغ من الجحر ثانية.
انتهى وقت الكلام ولنكمل نحن ابناء القضية العمل معا لنحفظ لبنان الإنسان، لبنان المستقبل ولنكمل مشوار بناء الوحدة الوطنية وتطوير وتكامل قدراتنا لنؤمن للأجيال حقوقهم في التعليم والصحة والحماية من من كل انواع الظلم والإستغلال والعنف.
(أجزاء من مقالة أطول)
(طبيب - مدير سابق للبرامج الصحية في مكتب "اليونيسيف" في بيروت)
تعليقات: