في شهر تموز دنّست صواريخ المغول الصهاينة أرضي ومدارسي ومساجدي وكنائسي وشموخ جبالي.
بدأ الدمار يرسم لوحاته بألوان مختلفة، وراح الرعب يمتدّ بأياديه الى قلوب العذارى والأمهات، والى الطفل الذي ركض الى زاوية البيت، يرقد فيها خوفاً. حتى حيوانات الطبيعة دخلت الى ظلام بيوتها.
ففي حرب تموز، وبين أمواج وهدير القصف الصاروخي، بقيتُ في الجنوب محاطاً بساحة المعركة، وجحيم نار الصواريخ يشتعل من حولي ومشاهد القتل والموت ترتسم في مخيّلتي.
في تلك الأيام بدأت غيوم السماء تقبّل قمم الجبال من حولي في جنوب تفجّرت في أوديته براكين الغضب وإرادة الصمود، لتخلق من سواعد الرجال رشاشات وصواريخ.
هنا بدأت علوم الفيزياء في أعماقي تخط معادلاتها أمام عينيّ، تحدّثني عن الوجود واللا وجود. بدأت فلسفة "كن أو لا تكون" تمد خيوطها الى عقلي الإنساني، الى كائن مثلي، ظن أنه جرم صغير غير أن فيه قد انطوى العالم الأكبر.
هنا في تلك اللحظات من الرعب، تتحد روحك الثائرة في كلّ أبعاد روحانيّات النرفانا الإلهية، التي تقودك الى شهامة المعنى الإنساني، وإذا بالخوف من الموت يتحول إلى تمردٍّ يتعالى فوق الجسد، لكي تشهر سيفك ورصاصك ضد مجرمي الحروب التي قادوها ضد الإنسانية والحضارة البشريّة.
غير أنّ المقاومة أثبتت "أن فينا قوّة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ"، وأن النكبات لا تصبح عاراً عندما تمحوا آثارها براكين الانتصار. لقد وُلِدَتْ من جديد حكمة زعيم من بلادي عندما قال: ليس عاراً أن ننكب بل العار أن تحولنا النكبات من رجال أقوياء الى رجال ضعفاء. وهذا ما ردّده الشاعر أدونيس صدىً شعريّاً عندما أنشد:
ليس عاراً لنا إذا ما نُكبنــــا وإنما في خفضنا الجباه العارا
وإذا السيف لم يقدك لحــــــقّ فكنّ السيف أو كن الجزّارا
غاية السيف أن يكون مع الحقّ فلا ينثني ولا يتــــوارى
في أوائل آب، حيث كان هناك وقف لإطلاق النار، انتقلت الى محيط بيروت أشاهد القصف الجنوني للضاحية الجنوبيّة منها. لهيب الانفجارات ونوع الضوء الصاعد منها جعلني أظن بأن إسرائيل تستعمل صواريخ مجهّزةً بمعدن اليورانيوم المشعّ والمميت.
في الرابع عشر من آب (2006) بعد إيقاف الحرب مباشرةً، وطأت قدماي أرض الضاحية، حيث انتصب أمام عينيّ عملاق الدمار. بقيتُ هناك ساعات طويلة تدخل الى رئتيّ جزيئات غبار الانفجارات.
عدتُ إلى الجنوب اللبناني حيث لوحظ وجود إشعاعات غير طبيعية في إحدى حفر القصف الصاروخي في بلدة الخيام. طلبت البلدية مني مساعدتها في ذلك. أخذت عداداً وقمت بقياس الإشعاعات في تلك الحفرة وكانت النتيجة تساوي عشرة اضعاف عن المحيط الطبيعي لذلك المكان (أنظر الشكل1).
كان الإعلام متواجدا في تلك اللحظة، حيث قامت الصحافة بنشر تصريحاتي حول تلك الإشعات غير الطبيعية على صفحاتها الأولى.
صادف أن يكون حاضراً في بلدة الخيام في ذلك الوقت الطبيب بلا حدود، برنارد كوشنير الذي لم يقتنع عندما قيل له بوجود إشعاعات في حفرة الصاروخ قائلاً‘Impossible! . دعيناه للحضور إلى مكان الحادث للتأكد من ذلك، حيث اعطيته العداد ليقيس بنفسه، كما هو واضح في الصورة أدناه. وعندما سأله الإعلام عما وجد، أجاب بلغته الفرنسية: .(C,est vrais, mais c,est la guerre) (لاحقاً عينه الرئيس الفرنسي سركوزي وزيراً للخاريجية الفرنسية حيث زار بعدها إسرائيل).
بعد هذا، وضمن تخصصي في العلوم النووية، صنعت لذاتي مشروعأً بمسح إمكانية وجود إشعاعات في كثير من الحفر الصاروخية التي سببتها حرب إسرائيل في جنوب لبنان وفي أماكن أخرى.
ثم جاء التهديد من قبل المؤسسات الرسميّة تطلب مني الكفِّ عن التصريحات حول وجود إشعاعات ناتجة عن حرب إسرائيل على لبنان! إنها السياسة اللعينة التي لا تريد الموضوعية ولا الحقيقة. هنا، وفي هذه اللحظات العصيبة، يتحرّك فيك عملاق التمرّد، ولأن "التمرّد نبيل في الغالب يدلّ على القوة والحياة"، وأن التهديد والوعيد يصبحان لا معنى لهما.
أكملتُ الطريق وجمعتُ عينات ترابيّة من حفر الصواريخ وغبارية من محيط الضاحية وعيّنات بوليّة لأفراد تعرّضوا لغبار القصف الصاروخي. حملتُ هذه العيّنات على أجنحة الريح لغبار معدن اليورانيوم القاتل، قاصداً أعلى المختبرات دقّة وأمانة دوليّة في الغرب، قاصداً زملاء لي، يربضون في تلك المختبرات. هنالك أدخلتُ الاله خالقي معي الى المختبر، لم أتركه على الباب، كما يفعل البعض، وذلك لكشف حقيقة استعمال اليورانيوم في حرب إسرائيل على لبنان. وهكذا فضّلت أن أكون حملاً قويّاً في الخارج يقود أسوداً، من أن أكون أسداً في الداخل يقود نعاجاً، كما يفعل سياسيوا لبنان.
أشرفت بنفسي على القياسات التجريبيّة في مختبرات ألمانيا والنمسا وفي مختبرات هارويل في بريطانيا. وكانت النتيجة التي فاجأت الباحثين:
لقد ثبت وجود اليورانيوم غير الطبيعي، أي صِناعي، في بعض عيّنات ترابيّة وبوليّة. كما ثبت أيضاً وجود يورانيوم مخصّب ومنضّب في عينات غبار التفجيرات الصاروخيّة وعيّنات البول لأفراد تعرّضوا لغبار القصف الصاروخي، والذين شكوا من عوارض صحيّة، شبيهة بالعوارض الصحيّة التي ظهرت عند الجنود الأميركيين والبريطانيين في حربهم على العراق سنة 2003.
لن أدخل في تفاصيل الأرقام والتجارب التي قمتُ بها، فقد نشرتها جريدة "السفير" في ذلك الوقت. غير أني وضعتُ بعدها كل هذه النتائج في كتاب سميته "الغبار القاتل: حروب اليورانيوم".
إن ضوء هذه النتائج للأبحاث التي قمت بها، راح ينشر خيوطه في ذلك الوقت في مراكز أكاديمية في ألمانيا والنمسا وسويسرا وغيرها من البلدان، حتى أنها وضعت في مواقع الكترونيّة عالميّة. كما أنني قدّمت عرضاً مفصّلاً لبعض النتائج في محاضرة ألقيتها أمام منظمة حقوق الانسان للأمم المتحدة في إحدى قاعات محاضراتها في جنيف وأخرى في محكمة الضمير العالمي التي عقدت في بروكسيل ـ بلجيكا.
في دول الغرب وقفت وقفة عزّلانتصار لبنان، وهل الحياة هي غير ذلك؟ وأقول هذا بكلّ تواضع، وذلك لنشر المعرفة حول استعمال إسرائيل أسلحتها المجهزة بمادة اليورانيوم المدمرة لصحة المواطنين في أرض وسماء لبنان. لقد حملت معي صور الدمار والمجازرالتي سببتها إسرائيل للشعب اللبناني كله.
ثلاث حوادث حدثت معي أريد ذكرها:
الحادثة الأولى:
أثناء تجميعي لعيّنات ترابيّة من حفر الصواريخ، وفي قرية جنوبيّة، رأيت سيّدة تقف أمام بناء مدمر لثلاثة طوابق تخصّ أبناءها الثلاثة، وهم أساتذة مدرسة، كانوا يفتشون عن بيت يعودون إليه للسكن. قلت لها: أختاه لا تحزني وعليك الصبر والسلوان. فقالت: (أقول ذلك بالفصحى) "أخي لا بأس، الحجر نصنعه، المال نجنيه والبيت نبنيه، أما الشرف فقد ربحناه". هذه نساؤنا يقفن وقفة عزّ، فكيف بالرجال؟
الحادثة الثانية:
كنت في احدى الندوات بمدينة "لِنز" في النمسا، حيث ألقيتُ محاضرة حول الدمار الذي سببته حرب تمّوز. بعد عرضي للمجازر التي حلت بالأطفال في قانا وغيرها، نزلتُ من على خشبة المسرح وإذا بسيّدة عجوز تتقدّم نحوي على عكازها وأصابع يدها مقفلة تخبّئ شيئاً ما في كفّ يدها. تقدّمتْ نحوي وقالت في خجل: "خذ هذا معك لأطفال لبنان". ما أخذته منها ليس بكثير: خمسون يورو! لقد كان بالنسبة لي نبضة وهزة ضمير لا تقدران بمال. إنه التعبير الإنساني العظيم في عيني عجوز في الثمانين من عمرها، فأين ضمير أغنياء لبنان؟
ما أشعل إنسانية هذه العجوز النبيلة هو تمزق طفل لبناني بقنبلة إسرائيليّة: لقد رأت بأم عينيها نازيّة إسرائيل ومجازرها التي تشبه نازيّة هتلر في محرقة "أوسفيتش" ضد اليهود.
ألا تتساوى همجية إسرائيل على بيروت بتلك الهمجية التي قام بها هتلر في الحرب العالمية الثانية على لندن، كما هو مبين في الصورة؟
الحادثة الثالثة:
كنت في إحدى الندوات في سويسرا، حيث حاضرتُ حول مأساة لبنان في حرب تموز. كان بين المحاورين الكاتب الفرنسي الشهير "تري ميسون" صاحب كتاب: (الفضيحة). قال "تري" للمستمعين في قاعة المحاضرات: "ذهبتُ بعد الحرب مباشرة الى جنوب لبنان لأرى ما حدث. وهناك شاهدت شباباً وصبايا ينظّفون الشوارع من الدمار وكنت أنتظر وجوهاً حزينة. غير أن الابتسامات كانت تعلو شفاههم، ونظرات اعتزاز في عيونهم. هنا دمعت عيناي حزناً على ذاتي، وسألت نفسي: "ماذا أفعل أنا من أجل هؤلاء. هم يصنعون التاريخ وأما أنا فأكتب كتباً فقط". وهنا كان جوابي لـ(تري) في تلك اللحظة: "تري! إن دموعك التي سقطت على تراب الجنوب، لِتُنْبِتَ منها أزهاراً وتُكوِّن منها إكليلاً لحقيقة ما كتبتَ عن لبنان".
حادثة "تري" هذه في الجنوب ذكّرتني بزيارة قمتُ بها ثانية بعد الحرب مباشرة للضاحية الجنوبية لبيروت. هناك رأيت شباباً وصبايا لبنانيين يجرفون التراب من على الشوارع لتنظيفها وهم يبتسمون أيضاً: كانوا مزيجاً من أبناء التيار الوطني الحرّ للتغيير والإصلاح وغيرهم من اللبنانيين.
وهنا سألت نفسي أيضاً، كما فعل "تري ميسون": ماذا أفعل أنا؟ جوابي هو: لقد ركبتُ على أجنحة الغبار القاتل وبحثت عن الحقيقة والإضاءة على جريمة إسرائيل تجاه الشعب اللبناني وكتبت حول هذا العمل كتاباً. هذا الكتاب فيه كلّ المعرفة لإنارة ما حدث في حرب إسرائيل في تموز وتأثيرات الأسلحة المجهّزة بمعدن اليورانيوم على صحة المواطنين.
وأخيراً اقول من أجل المعرفة والحقيقة، وكما قالها الفيلسوف نيتشه:
"إن قول الحقيقة وحده هو الذي يجعلكم أحراراً".
وأخيراً:
"ماذا يقول الحرف في الشفتين إن قال الدمُ"
(*) استاذ جامعي وباحث علمي.
الإشعاعات التي بثتها القنابل الإسرائيلية في الضاحية وبعض قرى الجنوب تساوي عشرة أضعاف المعدل في المحيط الطبيعي. مؤسسات رسمية لبنانية طلبت مني الكفّ عن التصريحات التي تشير إلى وجود اشعاعات في الحفر الصاروخية التي تسبب بها القصف الإسرائيلي.
تعليقات: