لا لغة تشبه قطعان الموت. وباء القتل مُعْدٍ يطارد أرتالاً من بشر بأعمار شتى. لا تملك الأمة كلاماً مقنعاً. صمتها يعبّر عن موتها. حطام واقف بحراسة القراصنة القادمين من أعاصير المذاهب والقبائل والآلهة ومَن يخلفها في الأرض من الشياطين المحدِّقة بالفناء.
كلما جرت محاولة لوصف ما يقع في المشرق، تبدَّت العبارات عارية عن وقائعها. يفقد الكلام صحته. لا قدرة للغة أن تصف غير ما يصيب الحجر. تعجز عن وصف ما يصيب البشر. يمرّ الركام خبراً مفهوماً، يعبّر عن المدن بالمعارك والاجتياحات والحصارات. تجري عمليات إحصاء للخسائر بالأرقام، تتعدّى المليارات. تتحوَّل الضحايا إلى أرقام متناثرة: «سقط عشرون قتيلاً وأربعون جريحاً». ليس في الخبر لونٌ لدمٍ، ليس في الكلمات شكل لطفل وتسريحة موته. ليس في النص ما يشير إلى تمزّق داخلي وركام صارخ ويأس طافح بالعدم. ليس في التصريحات «ذات الطابع الاستراتيجي»، أي إشارة إلى قوافل العيون التائهة والأيادي التي عادت فارغة من «حملة» توزيع الحصص الغذائية. ليس في ما يُكتب من تحقيقات سريعة، تتطلّبها آليات التواصل كيفما كان، أي قصة، بين ملايين القصص، عن أمهات بحثن عن أطفالهن فما وجدْنَهُم، عن شيوخ قصَّروا في الهرب، فغرقوا في الرمال وذابوا في شمس الصحراء. لا قصة، بين ملايين الحكايات، عن جحافل من الأطفال، يمدّون أيديهم لسد حاجتهم بلقمة، تمنحهم التستر على كُفرٍ ينامون فيه فوق أرصفة أو في زوايا مهملة. ليس في سرديات الأيام السورية والعراقية واليمنية والليبية، ما يجعل العالم يذرف إحساساً بالعار، لتلكُّئِهِ أو لعجزه عن مساعدة مَن لا حول ولا قوة ولا خلاص لهم إلا بالموت. لم يقرأ أحد بعد عمّا بعد «مقبرة المتوسط» التي التهمت «ملائكتُها الزرق» أجساد عائلات هاربة من موت برّي وجوي، إلى أحضان ماء شفّاف، ما اعتاد هذا الحجم الهائل من الزيارات الفجائعية.
ومع ذلك، يحدّثونك عن «الخطر السوري».
ومع ذلك يحدّثونك عن قنبلة النازحين السوريين الموقوتة. يُعزون إلى كثرتهم، بؤس حالة اللبنانيين. وهذا غشّ مفضوح. أزمات اللبنانيين، سابقة على النزوح السوري. قصة الكهرباء مزمنة. الماء «شرحو». التلوّث فضيحة مستدامة. أزمة الاختناق المروري مشهد يومي. الفراغ ودوس القوانين وتهالك المؤسسات وتهاوي الخدمات ومأزق التعليم وهجرة المتخرّجين وبؤس البؤساء الخ، كله سابق على النزوح، ولم يثبت أن النازحين كانوا سبباً في أزماتنا. أزماتنا، منا وفينا وبسببنا. عدم الاعتراف بذلك اعتداء على الصدقية واتهام للنازحين بما لم يأتوه أبداً.
وبرغم وضوح كل ذلك، يحدّثونك عن النازحين السوريين، ثم يضيفون إلى المشهد الكاذب تقاليد السياسة اللبنانية الرثة، ثم يتّهمون النازحين السوريين بأنهم يُفقدون لبنان «توازنه» الديموغرافي المختل من الأساس، ثم يتعاملون معهم وفقاً لتبعيتهم المذهبية، ويتركونهم في عراء قانوني، معرَّضين باستمرار لابتزاز مُذلّ... حالة لعنة هذه، وحال إسفاف أخلاقي.
هؤلاء النازحين بشرٌ. ليسوا من فصيلة الحجر. هؤلاء لهم مشاعر وأحاسيس وعيون لتدمع وآذان لتسمع... هؤلاء من سلالة القامة التراجيدية بكل ما فيها من جنون وانتحار وخوف وخسران ومَنَافٍ والنظر إلى الصفر، على أنه نقطة بداية، فإذ به في لبنان، منتهى النهاية... مَن يتباكون على المدن السورية ويذرفون دموعاً باردة على دمشق ويفيضون أحاسيس باهتة ومتناقضة حول حلب الشهيدة، ويستنفرون ثقافتهم العالية استنكاراً لتدمير حضارة في تدمر... هؤلاء، يتخلّفون عن رؤية النازح السوري كإنسان. ينظرون إليه كوباء. هو عدو، هو منافس، هو مُعتدٍ. هو فلسطيني مستقبلاً. هو لن يعود إلى بلاده. لا يستحق الخيام. لا يحظى بهيئة ترعى شؤونه، باستثناء التدابير الأمنية... والنازح، برغم كل هذا النكران، يستنكرون ما لديه من غزارة إنجاب. يفترض أن يتم تعقيم السوري لحرمانه مما تبقى له من لذة عابرة وحزينة في فراش خشن الأحلام. هو شيء من العنصرية مقيت.
ومع ذلك، ليس هذا كل ما في الأمر:
مشكلة التمييز الطائفي تحوي منسوباً عالياً من العنصرية. هذا التمييز ركن من أسس النظام. اللبنانيون «الأقحاح» متشبثون بنظام الامتيازات الطائفية، وهم من كل المذاهب موارنة وأرثوذكس وسنة وشيعة ودروز الخ.. يُصرّون على تبني عنصرية «بناءة» (كالطائفية البناءة التي قتلت منظّرها كمال يوسف الحاج)، تمّ تهذيبها بمصطلح المحاصصة التي ألبست ثوب «المشاركة». لا يُعقل، ولبنان على هذه الثقافة المتخلّفة، ثقافة ما دون المواطنة وما دون الوطن، أن يتم التعامل مع السوري كإنسان ومع الفلسطيني كقضية. حل هذه المعضلة التكوينية للبلد، يقوم على ثقافة جديدة ونظام تعليم جديد، مضاد للطائفية والمذهبية... فلننتظر أزمنة جديدة.
وحتى هذا، ليس كل ما في الأمر كذلك.
سوريا في لبنان موجودة بكثافة والتزام، مع ما تقتضيه الحروب فيها من انقسام حادٍ وقاسٍ بين اللبنانيين. وهؤلاء، منخرطون في الصراع بأبعاده المحلية والإقليمية والدولية. قادة لبنان نجحوا في إلباس لبنان الانقسامات السورية السياسية والعسكرية. أورث هؤلاء لبنان فراغاً، بات التعايش معه معجزة سهلة. سوريا، بمعاركها وجيوشها وإسلامييها موجودة في لبنان ومحتَضَنة، شعبياً وإعلامياً وسياسياً. أما النازحون، برأيهم، فهم المشكلة، وعليه، فلا صوت يعلو على صوت المدافع في سوريا ولا على صوت الفرقاء جميعاً.
لا مبالغة أبداً في القول، إن لبنان، بما هو عليه وبمن هم عليه، هو مشكلة للنازحين السوريين وليس العكس. السلطة السياسية لم تتفق حتى الآن على سياسة موحّدة لمعالجة اللجوء. الخلاف بدأ بالمخيمات الممنوعة، فانتشرت عشوائياً، كمخيّمات مذهبية، في لبنان... أخطاء السوريين يمكن معالجتها باللجوء إلى القوانين اللبنانية وحسن تطبيقها. المنع ليس حكمة، القمع يولّد العنف والإحباط، التخويف يضيف عذاباً إلى عذابات. النازحون السوريون ليسوا ملائكة، ولكنهم ليسوا إرهابيين وليسوا أكلة عيش اللبنانيين. الحرب على العمالة السورية تتمّ بتطبيق القوانين المحلية والشرعية الدولية. فزاعة التوطين خرافة. التوطين ممنوع في الدستور.
لذلك، ومع الرجاء الحار، حُلّوا عن السوريين. هؤلاء بشر، وبحاجة إلى احتضان. وفي أقل الإيمان، هم بحاجة إلى مَن يخفف عنهم وليس إلى مَن يُشعرهم بأنهم منبوذون، وأنهم سبب البلاء الكبير للبلاد.
تعليقات: