السورية سمر يزبك: تسلطِ الضوءِ على بؤرةِ ظلامٍ دامسٍ وتنقل الصورة الحيَّة إلى الإنسانِ القارئ
روايةُ رائحة القرفة للكاتبة السورية سمر يزبك من أجملِ الروايات القليلة التي قرأتها مؤخَّراً وأعجبتُ بها كثيراً لما تحتويهِ من خميرةٍ لغويَّةٍ مرَّكبة ولأنها قبلَ كلِّ شيء تنتمي إلى تلكَ الرواياتِ الرائعة والمكتوبةِ بجرأةٍ نادرةٍ وشجاعةٍ إنسانيةٍ عجيبة . فهيَ تتقاطعُ من هذهِ الناحيةِ مع بعض كتابات الكاتب البيروفي ماريو فارغاس يوسا مثلِ روايتيهِ امتداح الخالة ودفاتر دون ريغو بيرتو والكاتب المغربي الشهير محمد شكري في روايتهِ الرائعة الخبز الحافي.. روايةُ تعريَّةٍ من الصعبِ أن تُفلت من تأثيرها لأيَّامٍ عدَّة لحرارةِ الوجعِ النفسي المسفوحِ على بياضِ صفحاتها ولأنها لا تحفلُ كثيراً بمشاهدِ الجنسِ المبعثرةِ رغمَ فداحتها هنا وهناك في حناياها بقدرِ ما تطفحُ بالمرارة والغربةِ الإجتماعيَّةِ وبذورِ المأساة... ولأنها تقفُ على فوَّهٍ مُلتهبةٍ حاولَ الكثيرُ من الروائيات العربياتِ الوقوفَ عليها في الآونةِ الأخيرة.. ونستطيع أن نرى في موضوعها الإشكاليِّ المتمثِّل بالمثليَّة الجنسيَّة بعضَ الشبهِ الذي تتقاسمهُ مع روائيات خليجيَّات مثل ليلى العثمان ومصريَّات كنوال السعداوي مثلاً .
تقفُ الكاتبة في هذهِ الرواية أمام مرايا الحياةِ المشروخةِ في المجتمعِ السوري وتعالجُ ازدواجيَّةَ المعايير فيهِ على حدِّ قولها من خلال التعرِّضِ للعلاقةِ المثليَّةِ السحاقيَّةِ التي تنشأُ بينَ السيدةِ الثريَّةِ حنانِ الهاشمي وخادمتها عليا فتحاولُ تصوير العلاقة المعقَّدة بينَ هاتينِ الشخصيتين بمهارةٍ دقيقةٍ وبراعةٍ في استجلاءِ مكنوناتِ النفسِ البشرِّيةِ عن طريق مونولوج داخلي.. وأيضاً بالكثيرِ من الإنتقادِ الواضحِ للطبقيَّة وتداعياتها في المجتمعاتِ الفقيرة.. وقد أفلحت في نظري بنقلِ الواقعِ بكلِّ ما فيهِ من آلام وحزن وقسوة ومرارةٍ بسردٍ ساحرٍ أخَّاذ .
تحكي هذهِ الروايةِ قصَّةَ عليا التي تعيشُ مع أهلها في حيِّ الرملِ المدقعِ في الفقرِ في طرفٍ من أطرافِ دمشق.. حيثُ بيوتُ الصفيح وشظفُ العيشِ وقسوةُ الأبِ الجنونيَّةُ وتسلُّّطُهُ المفرطُ في الأنانيَّةِ على أهلِ بيتهِ حتى أنَّهُ لا يتورَّعُ عن ضربِ ابنتهِ عليا الكبرى حتى الشللِ في مشهدٍ من أكثرِ مشاهدِ الروايةِ مأساويَّةً لأنها كانت تعدُّ النقودَ سرَّاً مع أمِّها من دون أن تسلِّمها إليهِ.. الأمر الذي أدَّى في النهايةِ إلى اغتصابها على يدِ عبود ابن الجيران وانتحارها في الأخير بعد أن علمَ الناسُ ما جرى لها على يدِ ابن جيرانها.ماتت إذن عليا الكبرى لتأخذ مكانها في المأساةِ عليا الصغرى التي تشكِّلُ الشخصيَّة الرئيسيَّة في الرواية.
تبدأُ أحداثُ الرواية باكتشافِ السيدة حنان الهاشمي بخيانةِ زوجها أنور الهاشمي لها بعدَ أن فزعت من الكابوس المريع الذي شاهدتهُ في نومها من أنها قد تحوَّلت إلى امرأةٌ بثلاثةِ أثداء وخمسةِ أذرع. فهبَّت من نومها وكانَ الضوءُ المنفلتُ من فرجةِ بابِ غرفةِ زوجها الشيءَ الوحيدَ الذي قادها إلى غرفةِ النوم لتكتشفَ خيانةَ عليا وزوجها لها خصوصاً وأنهما كانتا في علاقةٍ مثليَّةٍ حميمة.. وهذا ربمَّا أغضبها أكثر لأنَّها كانت تريدُ امتلاكَ جسد عليا وحدها.. ليكونَ متنفسَّها الوحيدَ بعدَ أن سئمت من رياءِ ونفاقِ نساءِ الطبقةِ المخمليَّة. لذلكَ وافقت أن تكونَ هيَ السيدةَ المتنفذةَ في النهار بينما تكونُ خادمتها سيدَّتها في الليلِ... لكن سرعان ما تتوتَّرُ العلاقة بينهما عندما نسيت عليا نفسها معها حتى صباحِ تلكَ الليلة المشئومة فأمرتها أن تغادرَ غرفتها بعصبيَّةٍ وغرورٍ واستعلاءٍ واضحين فأضمرت لها الخادمةُ سوءَ النيَّةِ وأخذت تلتفُّ على زوجِها حتى استطاعت في النهايةِ الإيقاعَ بهِ والتسلَّلَ إلى فراشهِ .
تستندُ الروايةُ وتقومُ على طريقةِ استعادةِ الماضي فهي زمنيَّاً لا تمتدُّ إلاَّ لبضعةِ ساعاتٍ قليلة أي من لحظةِ خروجِ عليا مطرودةً من فيلا حنان الهاشمي إلى وقتِ ضحى ذلكَ اليوم حينَ انطلقت السيدة للبحثِ عنها في أزَّقةِ دمشق المغبرَّة.
وقد كانت عليا في في طريقها إلى المجهولِ بعدَ طردها من الفيلا تستعيدُ اللحظات المريرة منذ أن كانت طفلةً تتشاجرُ مع الصبيانِ من أجلِ الحلوى التي لطَّخت وجهها ذاتَ يومٍ وسبَّبت لها مشكلةً مع والدها بسببِ شجارها مع أحد صبيةِ الشقاء في حيِّها.. ومنذُ كانت طالبة متمرِّدةً إلى تلكَ اللحظةِ التي اغتصبها فيها رفيقها في جمعِ ما حسنَ من حاويات النفاية ساسوكي. لتعودَ في اليومِ التالي لتُعملَ سكينها في ظهرهِ انتقاماً منهُ.عليا إذن تعلَّمت كلَّ أساليب الدفاعِ عن النفسِ في هذهِ البيئةِ الدمشقيَّةِ الملأى بالمخاطرِ والقلقِ والفقرِ والخوفِ من الآتي.
تظلُّ عليا في البيتِ منذ تلك الحادثة إلى أن يقودها أبوها ذات صباحٍ للخدمةِ في منـزلِ السيدة الثريَّة حنان التي تستعيدُ هيَ الأخرى بعدَ طردِ خادمتها ذكرياتها الأليمة مع أمها التي لم تعبأ بمشاعرها الطفوليَّة والتي أرادت لها أن تتزوَّج بلا حبٍّ من أنور ابن عمِّها الذي يكبرها بسنوات عديدة لتنجبَ لهُ ابنهُ الذي انتظرهُ طويلا منذ زواجهِ الأوَّل.
ولكنَّا تنفرُ منهُ وتسميِّهِ التمساحَ المتفسِّخ الخالي من أيِّ عاطفةٍ وحرارة.
تتذكَّرُ حنان كيفَ أن أمها قد أخذتها عندما كانت طفلةً إلى حمَّامِ النساءِ لتعبثَ بجسدها هناكَ أصابعُ امرأةٍ ممهدَّةً بذلكَ لولعها الخفيِّ بالجسدِ الأنثويِّ في مجتمعٍ محافظٍ وظالمٍ لا يولي المرأةَ ومشاعرها أيَّة أهميَّة.لا أريدُ أن أعرض في عرضي القصيرِ هذا إلى فلسفةِ هذهِ الروايةِ بل أحببت أن أشير إلى أنَّها حشدت صوراً حيَّةً حقيقيَّةً للواقعِ السوري وسلَّطت الأضواء على عوالم خفيَّة وتقاليد يجهلها الكثيرُ من الناس خصوصاً تلك التي تضعُ فيها المستحمَّةُ إبريق قرفةٍ على النارِ ليغلي وتشتمُّ هيَ بدورها رائحة بخارِ القرفةِ المنبعثة.. ربمَّا يكونُ السبب من وراءِ هذا الأمر تقويةَ الرغبةِ عند المرأة وفي ظنِّي أنَّها وُفِّقت كثيراً في اختيارِ عنوان الروايةِ بعدَ أن كانَ اسمها في البدايةِ عليا كما يتضِّحُ من نصٍّ منها منشورٍ في موقعِ الحوارِ المتمدِّن قبلَ صدروِ الروايةِ بطبعتها الأولى عام 2008.
هنالكَ ترديدُ بعضِ العباراتِ في الرواية مثل " ظل الضوء المائل " وهذا الشيء يعملُ كثيراً على الجانب السايكولوجي لدى القارئ وهو موجودٌ في روايات عديدة مثل رواية ميرامار لنجيب محفوظ ونلمسهُ في الرواية العالميَّة أيضاً لدى بروست وكافكا .
أودُّ أن أشير في النهاية إلى أنَّ رواية رائحة القرفة رواية جادَّة وضَّاجةٌ بالألمِ الإنساني... توظِّفُ مشاهد الجنس والإيروتيكا ليسَ لإيقاظِ غرائز الشهوة بل لتسليطِ الضوءِ على بؤرةِ ظلامٍ دامسٍ ونقل الصورة الحيَّة إلى الإنسانِ القارئ أيَّاً كانَ دينهُ أو كانت قوميَّتهُ. رائحةُ القرفة في هذهِ الروايةِ لاذعةٌ جدَّاً ومن الصعبِ أن يتلاشى طعمها من فمكَ بسهولة.. هيَ صرخةٌ مدوِّيَّة وجريئة وفتحٌ جديدٌ في الروايةِ العربيَّةِ وتستحقُ منَّا الإلتفات والإهتمام.
* نمر سعدي/ فلسطين
تعليقات: