مفتي الجمهورية المصرية
أعلن مفتي الجمهورية المصرية في الفترة الأخيرة أنّه «لم يسبق» أن تعرّض «لضغط سياسي أو حكومي عند إصدار فتوى». وأكّد مطوّلاً هذا الكلام أثناء مؤتمر صحافي عقده يوم الثلاثاء 13 تشرين الثاني، فأذاعه بشكل شبه كامل برنامج «العاشرة مساءً» الواسع الانتشار، رغم أهميّة الحجج الواهية التي كان يقدّمها الدكتور علي جمعة لمحاولة تبرير نفسه.
المهم أنّ مفتي الديار شعر بأهمية تنظيم مثل هذا المؤتمر بعد الزوبعة التي أثارتها آخر فتويين له. فنظراً لقدرته على إصدار فتاوى لا تلبث أن تُثير البلبلة والزوبعة، قد تكون الأحداث سبقتنا عند نشر هذه المقالة. والفتوى الأولى الخاصة بالهجرة غير الشرعية، أصدرها بعد وفاة ما يقرب من ثلاثين شاباً مصرياً غرقاً أمام السواحل الإيطالية، فقال إنّ هؤلاء الشباب «ذهبوا من أجل أطماع مادية فألقوا بأنفسهم إلى التهلكة» وإنّهم «ليسوا شهداء». والفتوى الثانية خاصة بحوادث السير، أفتى فيها «بعدم جواز إدانة سائق بالقتل إذا دهس أشخاصاً مروا أمام سيارته». ونُشرت هذه الفتوى الأخيرة يوم الخميس 8 تشرين الثاني، أي بعد أيام قليلة من قتل سيارة ميكروباص كانت تستخدمها قوّات الشرطة فتاة تشبّثت بالسيارة لمحاولة منعها من التحرّك وفي داخلها زوجة شقيقها المقبوض عليها، فأمر ضابط القوة السائق بالإسراع، ما تسبّب بدهسها.
أثناء مؤتمره الصحافي، كان أحد ردود الدكتور علي جمعة على الانتقادات التي أثارتها هذه الفتوى الأخيرة، وما أطلق عليه أحد المدوّنين «دار الإفتاء في خدمة الشرطة»، أنّ الفتوى لم تصدر بمناسبة الحادث، بل في شهر حزيران الماضي، أي قبل أربعة شهور من قتل الفتاة. ولكن هي حجّة لا تفسّر قيام دار الإفتاء بنشر الفتوى على هذا النطاق الواسع في هذا التوقيت بالذات. فالدار هي التي أرسلت بياناً بها إلى الوكالات، ولو لم تفعل لما كان أحد عرف بها أصلاً، علماً بأنّ دار الإفتاء المصرية تصدر ما يقرب من 1000 فتوى يومياً. فنشر الفتوى في هذا التوقيت أتى وكأنّ هدفها هو الردّ المباشر على الاتهامات التي وُجّهت إلى ضابط الشرطة المتسبّب بقتل الفتاة.
قد لا يتعرّض مفتي الجمهورية لأي ضغوط سياسية أو حكومية، كما يقول، لكننا نحب أن نعرف لماذا إذاً، تأتي الغالبية العظمى من فتاواه متوافقة مع احتياجات السلطة ومصالحها؟ لماذا صرّح بأنّ الشباب الذين غرقوا أمام السواحل الإيطالية «ذهبوا من أجل أطماع مادية»، ضارباً عرض الحائط بكلّ المعلومات التي تداولتها الصحف عن ظروف حياة هؤلاء الشباب الذين كان بعضهم مسؤولاً عن عائلات تتكوّن من عشرة أشخاص أو أكثر؛ لماذا إذاً يُلقي مفتي الجمهورية اللوم على هؤلاء الشباب، وليس على الظروف التي أجبرتهم على الرحيل بحثاً عن فرصة عمل؟ هل كان يُجامل الحكومة (دون أي ضغط منها، فهو، كما تفضّل وأسهب، ليس من النوع الذي يمكن الضغط عليه)، وحاول أن يحميها من الإحراج أمام شعبها، وأمام الحكومة الإيطالية، التي يحاول في الوقت نفسه أن يحمي شواطئها من توافد الشباب المصريين الحالمين بإمكان توفير الرزق لأهاليهم؟ أو، بمعنى آخر، كما كان يتساءل الدكتور جلال أمين في تعليقه على هذه الفتوى، «هل هو مفتي الديار المصرية أم مفتي السلطة أم مفتي الديار
الإيطالية»؟
وإذا كان المفتي لا يتعرّض لضغوط سياسية، كما يقول، فلماذا أصدر أخيراً فتاوى أخرى أتت كأنها تبرّئ الحكومة من مسؤولياتها في معالجة المشاكل التي يعانيها المجتمع؟ لماذا تُلقي غالبيّة هذه الفتاوى اللوم على المواطن نفسه، وتحرّم عليه الطرق التي ابتكرها للخروج من أزمة تواجهه بسبب تقاعس المؤسّسات الرسمية، مثل فتوى تحريم حرق قشّ الأرز المتسبّب بالسحابة السوداء التي تعانيها القاهرة كل عام في مثل هذا التوقيت، والذي يحرقه الفلاح نتيجة عدم توافر الآليات اللازمة لإعادة تدويره إلى أسمدة.
لماذا يقدّم الدكتور علي جمعة ما يبيح لشركات الاتصالات الكبرى أن تستخدم مآذن المساجد كهوائيات لتقوية الإرسال والبث لشبكة المحمول، بعدما قامت حركات احتجاجية في العديد من القرى (قمعت الشرطة بعضها بعنف شديد) لمنع تركيب محطات التقوية فوق المنازل، على أساس أنها قد تكون مُسرطنة؟
هل نستنتج من هذا كلّه أنّ مفتي الديار، بما أنّه لا يحتاج إلى أي ضغوط سياسية لإصدار مثل هذه الفتاوى الشديدة الانحياز، يفكّر هو والحكومة بعقل واحد؟ بل إنّه يقول أكثر ممّا تقوله الحكومة نفسها في الهجوم على المعارضين، الذين نعتهم بـ«التافهين والمرضى»، واصفاً معارضة الحكومة بـ«السعار ضد الحكومة» (الأهرام، 12 تشرين الثاني 2007).
ولكن علي جمعة لا يكتفي بإصدار فتاوى تدعم السلطة، بل أصدر ما يمكن تصنيفه تحت بند العبثية، فلم ننس بعد فتواه عن «تبرّك الصحابة بشرب بول الرسول»، إلى جانب تلك الخاصة بإباحة قيام الفنادق بإنشاء حمامات تستحم فيها النساء بالحليب؛ فغرائبية التصريحات هذه أعطت انطباعاً بالفوضى وعدم الجدية، ما دفع عدداً من رجال الدين والنوّاب المستقلّين إلى المطالبة بإقالة مفتي الجمهورية من منصبه.
لكنّ تركيز الإعلام على شخص المفتي وتصريحاته التي ساهمت في مناقشات محتدمة حول قضايا كان من المفترض ألاّ تلقى أي اهتمام، بصرف النظر عن طبيعة مؤسّسة دار الإفتاء الحكومية.
وإذا كان البعض من كبار رجال الدين الذين شغلوا منصب مفتي الديار اشتهروا برفضهم الانصياع لمصالح أو حتى رغبات الحكّام في حالات استثنائية، على غرار الشيخ المراغي الذي رفض أن يُصدر فتوى تحرّم زواج الملكة فريدة بعد طلاقها بالملك فاروق، رغم إلحاح الملك الشديد، ففي غالب الأحيان كان هؤلاء يُصدرون فتاوى تتماشى واحتياجات السلطة السياسية. وأشهر أمثلة على ذلك فتوى للشيخ جاد الحق علي جاد الحق أصدرها عام 1977 يدعم فيها زيارة السادات للقدس. وفي السنوات الأخيرة صدرت فتاوى تحرّم مقاطعة الانتخابات عندما كانت المعارضة تدعو إلى المقاطعة، كما صدرت حديثاً فتوى لشيخ الأزهر تدعو إلى تطبيق حدّ الجلد على الصحافيّين «الذين يقذفون غيرهم بالتهم الباطلة» ويتناقلون الشائعات (بعد نشر «شائعة» عن صحة الرئيس مبارك).
فلن نستغرب إذاً قرار مفتي الديار فجأة بإصدار فتوى تحرّم الإضرابات والاعتصامات التي انتشرت بشكل غير مسبوق في الآونة الأخيرة، وقد تهدّد بعض المصالح الحكومية الحيوية. ولكن إذا أراد أن يُطلَق عليه رسمياً اللقب الذي يستحقّه عن جدارة، لقب «مفتي الرئاسة»، فلم يبقَ إلّا أن يحلّل توريث الحكم، بعيداً طبعاً عن أي ضغط حكومي.
* صحافية مصرية
تعليقات: