هدأت النفوس قليلاً. فريق الأكثرية دخل في مراجعة إلزامية لواقع العلاقات الخارجية التي حكمت موقفه خلال العامين المنصرمين. وإن هو لم يفقد ما في يديه من أوراق كثيرة، إلا أنه بدأ يفقد زمام المبادرة. وانتقل في خلال شهرين تقريباً من مرحلة الهجوم الذي لا يتوقف عند حدود، الى مرحلة القتال التراجعي. وهو يراهن عملياً على لعبة كسب الوقت وفق آلية حماية ما هو قائم من مكاسب والحدّ من الخسائر والسعي الى إعادة ترميم الصف، ولو تطلّب الأمر التخلي عن بعض الأثقال، وضجيجاً في المركب أو صراخاً ممّن سيلقون في المياه مع مراكب نجاة عائمة على بحر هائج.
وإذا كانت عملية إمرار ترشيح قائد الجيش العماد ميشال سليمان دونها إجراءات ومناقشات، فإن ما يجثم على صدر فريق الأكثرية هو السجال الذي فتحه وليد جنبلاط حول التغييرات في موقف واشنطن من ملف لبنان، وهو الذي يرد بسخرية على الكلام الأميركي عن عدم وجود مقايضة مع سوريا على حساب لبنان ويقول: إذا لم يكن النقاش قد بدأ فعلاً، فإنه على الطريق. ولكن لن يقنعنا أحد بأن الأمور باقية كما كانت عليه، وبالتالي فإن أمامنا خياراً من اثنين: إمّا التورط في مواجهة شاملة لن نخرج منها إلّا مهزومين، وإمّا التوجه نحو تسوية تفرض علينا دفع بعض الأثمان، ولنعمد نحن إلى تحديد هذه الأثمان بدل أن تفرض علينا لائحة مفتوحة تودي بنا الى الهلاك.
وإذ يظهر مقرّبون من جنبلاط «عتباً» على الآخرين الذين لم يتلقّفوا دعوته الى التسوية، فهم يفترضون أنه بمجرد أن دعا «البك» الرعية من أبناء الأقضية الى كلام في دارته، فعليهم الركض والتضرّع إلى الله لأن جنبلاط رضي عنهم وقرر مكالمتهم. وثمة عِقَد متنوعة لدى بعض الجهات في فريق جنبلاط الطائفي والسياسي من النوع الذي يوحي أن ركضهم خلفه وقبولهم توليه قيادتهم يميناً أو يساراً دون نقاش، نابعان من فهم علمي ومن التزام عقائدي وعلى الآخر القبول به، وبالتالي، فإنهم يستغربون التساؤل عمّا بدا حتى تغيّر مزاج الزعيم الوطني الكبير!.
ولذلك، فإن مرحلة التسوية التي يريدها الآخرون من خصوم جنبلاط، تأخذ مجراها إذا كانت عناصرها الحقيقية متوافرة، لكنها لن تعبر وفق القواعد نفسها التي قامت عليها الحياة السياسية سابقاً. والنقاش الفعلي القائم الآن ينطلق من سؤال: هل يعني إجراء الانتخابات الرئاسية بتوافق الكبار إعلاناً لفرط التحالفات القائمة حالياً بين موالين ومعارضين والتوجه مباشرة نحو تحالفات تعيد ربط البلاد بأولويات من نوع آخر؟
ثمة ترحيب كبير من جانب الرئيس بري بالمناخ الإيجابي السائد لدى السيدين جنبلاط والحريري، ورغم أن بري لا يؤخذ على حين غرة، وهو يعرف «نعمة التحالف الشيعي» مقارنةً بالانقسامات التي تواجهها الطوائف الأخرى، إلا أنه يقدر على صناعة الهامش الخاص به، الذي يعيده الى بناء تحالفات لا تكون بالحدة التي اتّسمت بها تحالفات ما بعد خروج سوريا من لبنان. وقد يجد جنبلاط في بري شريكاً قوياً يمكن، إذا توافق معه ومع الحريري، أن يمثّلوا التيار الأكثر فعّالية على مستوى إدارة الدولة، على أن يتركوا لحزب الله والتيار الوطني الحر ومن يرغب من 14 آذار الانضواء في تحالف معارض يأمل جنبلاط أن يمارس احتجاجات كالتي كانت المعارضة تقودها أيام حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري، فيرتفع الصراخ فيما العجلة تسير وفق رغبة الحاكم.
ولذلك، فإن جنبلاط يريد الآن أن يكون الاستحقاق الرئاسي محطّ إجماع التركيبة الثلاثية التي يعتقد أنه يمكن ضم «القوات اللبنانية» اليها بعد إلزامها تعديلات على مشاريعها وأحلامها الفدرالية وتصوراتها الطوباوية. وهذا ما يحمل جنبلاط على استعجال «الانتخاب السياسي» لقائد الجيش قبل الانتخاب الفعلي كأساس لهذا التحالف الذي يتطلب تفاهماً جدياً وقوياً مع رئيس الجمهورية المقبل، وخصوصاً في الفترة الأولى من ولايته، حين سيضطر المتحاربون الى التنازل لمصلحته في طريقة إدارة الدولة وتأليف الحكومة. وهكذا ليس بإمكان العقل الذي يدير به جنبلاط الحركة اليوم أن يترك لغيره أمر ترشيح أو انتخاب الرئيس الجديد. ولشعوره بقسوة الأمر وعدم وجود جهة مثل سوريا توفّر له ما يفوته في المرحلة الأولى، فهو مستعد لإدخال تعديل جوهري على موقفه على صعيد القبول بعكسري وتعديل الدستور وبأشياء أخرى إذا لزم الأمر.
لكن ماذا عن الحريري؟
إذا سارت الأمور كما يشتهي الفريق الأكثري الآن، فإن أمام سعد الحريري فرصة لالتقاط أنفاسه. وإذا نزل عند رغبة أميركية وسعودية فهو سيترك للرئيس فؤاد السنيورة مصارعة الثيران. وفي هذه الحالة، يمكنه التخلي عن استنفاره اليومي وإلزامية انخراطه في تفاصيل كثيرة، والعودة الى أشغاله وإلى بعض هواياته، لكنه سيشعر مع الوقت بأن التيار الذي يمثله قد يعيد حساباته، لينتهي الأمر باصطفاف ينافس فيه الإسلاميون تيار المستقبل بقوة ويحصدون ما تم زرعه من تعبئة مذهبية وطائفية ورعاية مادية، فيما يتقاتل المعتدلون من الخصوم على قسم آخر من تيار المستقبل الذي ينتهي به الأمر الى الخضوع للعبة تجاذبات داخلية من النوع الذي يجعله فرقاً ومذاهب، بحيث تعود الى الواجهة صور رجالات رافقوا الحريري الأب في قيام هذا التيار، وصراعات على قيادة مجموعات التيار وفق تقاسم وظيفي ومناطقي. فضلاً عما يمكن أن يبرز من خلافات كانت مؤجلة داخل العائلة الحاكمة نفسها، وهي الخلافات التي نامت بفعل ما دهم أصحابها من استحقاقات تلت اغتيال الأب، ... والذين يبقون في النهاية فئة صغيرة محصورة بطبقة جديدة من العائلات يحوم حولها فقراء الأطراف بحثاً عن فرصة علم أو عمل رافعين لافتة تطالب بالحقيقة!.
تعليقات: