مقدمة:
في إحدى أوراق البردي المصريَّة القديمة التي تعود لحوالي 3000 ق.م يتحدَّث طبيب فرعوني عن 8 حالات من سرطان الثدي حاول استئصالها، ثم يخلصُ إلى نتيجة مفادها أنَّ هذا المرض لا علاج له! واليوم بعد 5000 سنة من النضال المرير، مازال الناس يعتبرون سرطان الثدي وغيره من السرطانات حكمًا بالإعدام، وهم محقُّون في كثيرٍ من الأحيان.
يبدأ حدوث سرطان الثدي كما هو الحال بالنسبة لسائر الأورام الخبيثة على المستوى الخلوي المجهري، عندما تتعرَّض الخلية الحيَّة لمُسرطِنات بيئيَّة أو جينيَّة بكميَّة كافية ولفترة كافية، هذه المُسرطِنات تُحرِّض حدوث تغيُّرات في نواة الخليَّة على مستوى المادة الوراثيَّة (DNA) و RNA))، وهكذا تتحوَّل الخليَّة الطبيعيَّة إلى خليَّة خبيثة شاذَّة، وتبدأ بالنمو والتكاثر بطريقة خارجة عن السيطرة تخالف دورة الحياة والموت الخلويَّة المرسُومَة مُسبقًا.
يمكن أن يبدأ السرطان في أي جزء أو مكوِّن من الثدي، ولكنَّ غالبيِّة الأورام الخبيثة في الثدي تبدأ في الأقنية اللبنيَّة ducts))، وهي عبارة عن قُنيَّات (قنوات) صغيرة تنقل الحليب الذي تفرزه الغدد الثدييَّة glands)) إلى الحلمة (nipple).
الأسباب والعوامل المؤهِّبة:
كما قلنا، فإنَّ الخلية الطبيعيَّة في الثدي تتحول إلى خلية خبيثة شاذة عندما يحدث خلل في مادَّتها الوراثيَّة نتيجة تعرُّضها لمُسرطِنات جينيَّة أو بيئيَّة، وبات من المؤكَّد اليوم أنَّ الأسباب البيئيَّة تلعب الدور الأهم في حدوث سرطان الثدي وأغلب السرطنات الأخرى (90% من أسباب السرطان)، وعلى رأس قائمة هذه الأسباب البيئيَّة: التدخين والغذاء غير الصحي ونمط الحياة غير السليم، والتعرُّض المديد لهرمون الأستروجين مثل البدء المبكِّر للدورة الشهرية أو تأخر سن اليأس أو تأخر عمر المرأة عند أوَّل حمل، أمَّا الأسباب الوراثيَّة للسرطان فلا تتجاوز 10%. وفي آخر عشرين سنة، تم تحديد أكثر من 30 مورِّثة مسؤولة عن السرطانات الوراثية، بعضها مورِّثات مُسرطِنة oncogenes)) وبعضها مورِّثات كابحة للتسرطن (tumor suppressor genes)، مع العلم أنَّ أغلب السرطانات الوراثيَّة تنشأ بسبب غياب أو خلل في المورِّثات الكابحة للتسرطن وليس بسبب تأثير المورثات المُسرطنة. في سرطان الثدي أشهر المورثات المُسرطنة: BRCA1)) و (BRCA2) وأشهر المورثات الكابحة للتسرطن: (P53).
ومن المعايير التي تُشير لسرطان وراثي:
• تكرار نفس الحالة في الأقارب: سرطان الثدي عند الأم والبنت والشقيقات.
• ظهور الورم في عمر أبكر من العمر المعتاد: سرطان ثدي تحت عمر الثلاثين.
• حدوث السرطان في الجهتين معًا: سرطان ثدي في الثديين معًا.
• حدوث السرطان في الجنس الأقل تأثُّرًا: سرطان ثدي عند الذكور.
• ظهور السرطان في أعضاء متعدِّدة: سرطان ثدي وعظام ودماغ في حال خلل المورثة (p53).
العوامل المؤهِّبة أو عوامل الخطورة risk factors))، هي أيُّ شيء يزيد من احتمال إصابة الإنسان بالسرطان؛ فاحتمال إصابة المُدخِّن بسرطان الرئة أكبر بكثير من غير المُدخِّن، ولكلِّ نوع من أنواع
السرطان عوامل خطورة خاصَّة به، وأهم عوامل الخطورة للإصابة بسرطان الثدي:
• كون الشخص أنثى (Being a woman): فاحتمال إصابة النساء بسرطان الثدي أكبر بمئة مرة من احتمال إصابة الرجال.
• التقدُّم بالعمر Getting older)): أغلب حالات سرطان الثدي تُشخَّص فوق عمر 55 عامًا.
• امتلاك الجينات المؤهِّبة (Certain inherited genes): 10% من سرطان الثدي يحدث بسبب جينات مسرطنة (BRCA1) و BRCA2)).
• التاريخ العائلي ((family history: وجود قريب من الدرجة الأولى مصاب بسرطان الثدي يرفع خطورة الإصابة لثلاثة أضعاف.
• العرق الأبيض (white women): يحمل خطورة أكبر قليلًا للإصابة بسرطان الثدي من الأفارقة.
• العلاج الهرموني بعد سن اليأس (Hormone therapy after menopause): استُخدم العلاج الهرموني “الأستروجين” لسنوات طويلة عند النساء بعد سن اليأس لتخفيف الأعراض التي قد تظهر في هذا السن؛ ولكنَّ الدراسات أوضحت فيما بعد أنَّها عامل خطورة هام للإصابة بسرطان الثدي.
• التعرُّض للأشعَّة (radiation): تعرُّض الثدي أو الصدر للأشعَّة عامل خطورة هام للإصابة بسرطان الثدي.
• بدء الدورة الشهريَّة (menstruation) قبل سن 12، أو تأخُّر سن اليأس (menopause) لما بعد عمر 55.
• العقم أو تأخُّر الحمل (first child) لما بعد سن 30.
• نمط الحياة (Lifestyle): ويشمل كما ذكر التدخين وتناول الكحول والغذاء غير الصحي والبدانة وقلِّة النشاط الجسدي اليومي.
الكشف المبكِّر عن سرطان الثدي:
في ظلّ خطورة سرطان الثدي وصعوبة علاجه وخصوصًا إذا كان في مرحلة مُتقدِّمة؛ فإنَّ الكشف المبكِّر يلعب دورًا هامًا في تحسين إنذار المرض ومنح المصابين أملًا أكبر بالشفاء، ولذلك تصدر الجمعيات والمنظَّمات المعنيَّة بالسرطان توصيات دوريَّة حول طرق الكشف المبكِّر.
توصيات الجمعيَّة الأمريكيَّة للسرطان حول فحوص وإجراءات الكشف المبكِّر عن سرطان الثدي ACS Guidelines for Early Detection of Cancer Breast Cancer:
• يجب على كلِّ النساء البالغات أن يمتلكن قدرًا كافيًا من الوعي والمعرفة حول سرطان الثدي وأسبابه، وحول شكل ومظهر وملمس الثدي الطبيعي، وحول تصوير الماموغرام Mammogram)) وطرق إجراء الفحص الذاتي للثدي، وعليهن مراجعة الطبيب في حال ظهور أي تغيَّرات أو علامات مشبوهة.
• النساء بين عمر 40–44 يفضَّل لهنَّ إجراء صورة ماموغرام سنويًا.
• النساء بين عمر 45–54 يجب عليهن إجراء صورة ماموغرام سنويًا.
• النساء أكبر من 55 يجب عليهن إجراء صورة ماموغرام كل سنتين.
• يستمر إجراء صور الماموغرام مادامت المرأة بصحَّة جيدة، والعمر المتوقَّع لها أكثر من عشر سنوات.
• النساء اللواتي لديهن تاريخ عائلي لسرطان الثدي أو عوامل جينيَّة مؤهِّبة، يجب عندها إشراك التصوير بالرنين المغناطيسي (MRI) مع صور الماموغرام، وفي حالات خاصّة يمكن إجراء استقصاءات إضافيَّة بحسب رأي الطبيب المختص.
الأعراض والتشخيص:
من أهمّ العلامات والأعراض التي قد تشير لسرطان الثدي، وجود كتلة قاسية جديدة في الثدي حتى أنَّ بعض المراجع الطبيَّة تقول: كل كتلة صلبة مجسوسة في الثدي هي سرطان حتى يثبت العكس!
على كلِّ حال فإنَّ أهم العلامات التي يجب الانتباه لها والتي توجِّه نحو سرطان الثدي:
• أي تورُّم أو ضخامة أو كتلة في جزء أو في كلّ الثدي.
• ألم في الثدي أو الحلمة.
• انكماش أو غؤور الحلمة نحو الداخل.
• مفرزات دموية أو مصلية من الحلمة.
• تبدلات جلديَّة كاحمرار الثدي أو تقشُّر أو تشقُّق.
في بعض الأحيان يكون سرطان الثدي قد انتقل للعقد اللمفية الإبطيَّة، أو الأعضاء المجاورة كالرئتين قبل أن تظهر أي من الأعراض السابقة.
وحتى مع الاستخدام الدوري والروتيني للماموغراف يبقى للفحص السريري من قبل الطبيب والفحص الذاتي وملاحظة أية أعراض من قبل المريضة أهميَّة كبرى في كشف سرطان الثدي أبكر ما يمكن.
عند الاشتباه بسرطان الثدي، سواء عن طريق الفحص الدوري بالماموغراف أو عند ظهور أي أعراض مشبوهة؛ يجب مراجعة الطبيب المختص، ولتأكيد التشخيص أو نفيه يبدأ الطبيب سلسلة من الإجراءات تبدأ بالقصة المرضية المفصَّلة والفحص السريري الدقيق، ثم ينتقل للاستقصاءات الشعاعيَّة التي قد تشمل إيكو الثدي، وأحيانًا الطبقي المحوري (CT)، والرنين المغناطيسي (MRI) للثدي والصدر، وقد يلجأ أخيرًا للخزعة التي قد تكون إما عن طريق إبرة صغيرة جدًا (FNA) أو خزعة استئصاليَّة يقوم بها الجرَّاح ويستئصل من خلالها الكتلة المشبوهة، مع ترك هامش أمان مناسب. وتُدرس الأنسجة المُستأصلة تحت المجهر من قبل أخصائي التشريح المرضي لإعطاء الجواب النهائي المؤكَّد، هل هذه الكتلة سرطان أم لا.
علاج سرطان الثدي:
بعد تأكيد التشخيص، يقوم فريق طبي متكامل بوضع خطِّة العلاج ويختلف هذا العلاج اختلافًا جذريًا من مريضة لأخرى بحسب نوع السرطان ومدى انتشاره، وبحسب الحالة الصحيَّة العامَّة للمريضة، ففي حال اكتُشف الورم في بدايته قبل أن يكبر حجمه وينتشر؛ فالاستئصال الجراحي التام يكون كافيًا بمفرده في غالبيِّة الحالات. أمَّا إذا كان الورم منتشرًا ومُنتقلًا لأعضاء أخرى؛ فيكون العلاج الجراحي تلطيفيًّا مع إشراك أنواع أخرى من العلاجات المختلفة.
مع أنَّ الجراحة Surgery)) والعلاج الشعاعي (Radiation therapy) هي أقدم أنواع علاجات سرطان الثدي ولكنَّها مازالت حتى يومنا هذا هي العلاج الأساسي والأهم، أمَّا العلاجات الأخرى المختلفة كالعلاج الكيماوي Chemotherapy)) والهرموني ((Hormone therapy والهدفي Targeted therapy)) والمناعي () مازال دورها مساعدًا وداعمًا وإنَّما ليس أساسيًّا، ونترك التفصيل في هذه الأنواع المختلفة واستطبابات كلّ منها للمختصين.
هل هناك أمل؟
بالطبع يوجد، فقد حصل في السنوات الأخيرة خصوصًا تطوُّر كبير في فهم أسباب سرطان الثدي وآليِّة انتشاره، وطرق الكشف المبكِّر ووسائل التشخيص وأساليب العلاج، وكذلك حصل تطوُّر مهم في الوعي العام لدى النساء حول هذا الداء العضال، كلُّ هذا أدّى لأن تصبح نسبة الشفاء في الدول المتطوِّرة قرابة 90%! ولكن للأسف مازال هذا التطوُّر ضئيلًا ومحدودًا في المنطقة العربيَّة.
إنَّ هذه السلسلة من المعلومات القصيرة والمقالات والصور التوضيحيَّة التي قدَّمها مشروع أنا أصدق العلم خلال هذا الشهر، ما هي إلَّا محاولة لنشر المزيد من الوعي والمعرفة حول أكثر السرطانات شيوعًا لدى النساء.
إعداد: د. محمد الأبرص
تدقيق: دانه أبو فرحة
ibelieveinsci.com
تعليقات: