مع رحيل «السفير» يتساءل الناس حول أنفسهم، وهي الجريدة التي كانت متكأً لمن وافقها وعارضها
«صوت الذين لا صوت لهم». خَفت هذا الصوت أخيراً، فباتت «السفير» تنازع. ترحل الآن بعد أكثر من أربعين عاما من النضال، الكثيرون يملأ الأسى قلوبهم. بعضهم يقيس عمره بسنوات «السفير». ترحل «السفير» ويشعر الواحد منا بأن أنفاسه ترحل معها.
إذا كان المال هو المشكلة فمن سوف يصدق أنه لم يعد لدى المتعاطين من هذه الأمة ما يكفي من المال لإدامة عمر «السفير». أما كان بالإمكان إجراء عملية بيع وشراء من أجل الاستدامة.
.. أم تتعلق المسألة بالخط الذي انتهجته «السفير». صارت قضيتها مرفوضة لدى أهل رأس المال، حتى تركوها تنازع كي يخلصوا منها.
يتحدث الكثيرون عن دور لبناني انتهى. عصر جديد لم يعد يلزمه قضايا أو صحف تعبر عنها. هل ولجنا مرحلة الفرد دون قضية لكل منا موقف مسبق من جميع القضايا. يأخذ موقفه من التلفزيون مساء، أو من رسائل الاتصال الهاتفية الأخرى، ولا يلزمه التحليل صباحاً.
أسئلة كثيرة لا جواب عليها. أو أن الجواب هو في مؤخرة الرأس، يخجل صاحبه منه.
مع رحيل «السفير» يتساءل الناس حول أنفسهم، وهي الجريدة التي كانت متكأً لمن وافقها وعارضها. صحيح ان لبنان دون «السفير» أمر آخر. الاصح ان القراء أو من بقي، منهم سيفتقدون علاجاً صباحياً.
في كل العالم تنتشر تقنيات جعلت الصحيفة الورقية غير لازمة. كثير من الناس، بمن فيهم من المثقفين، يقرأون الألواح الذكية، هذا إن قرأوا. احدى مشاكل مجتمعنا ان القراء من كل نوع انخفض عددهم بقي جيلنا الذي تعود تحسس الورق كل صباح.
كانت الجرائد تفصح عن رأي الناس. صار أصحاب السلطة يكوّنون رأي الناس. وسائل الاتصال الاجتماعي يسيطر عليها بضعة رجال في بضعة غرف سوداء في العالم. هم أقوى من الدول. ما ينشرونه رقمياً يعيد تكوين وعي الجمهور. الأرجح ان الشريط التلفزيوني عن الاخبار العادية، وفوقه شريط عن الأحوال غير العادية، وفوقه شريط عن الأمور الطارئة، وفوقه صوت المذيع أو المذيعة، كل ذلك في اخبار سريعة لا يتجاوز كل منها عشرات الثواني، وكل ذلك ينتج عنه التشويش والتعمية أكثر من الاخبار ثم المعرفة. ليس مطلوباً أن تعرف بقدر أن يتشوش عقلك وتضيع قضاياك.
أنت في عالم آخر. عالم المعلومة وتشوش الفكر. تنقطع الصلة بين الأسباب والنتائج. يتعلق العقل. يتشوش الوعي. نفقد ملكة التفكير والتهذيب معاً امام سلاح الموقف.
نجح دونالد ترامب بعد حملة انتخابية هاجم فيها جميع وسائل الاعلام المرئية والمسموعة. شيء غير مسبوق في السياسة الأميركية، وربما في العالم. نقرأ عن مواطن من ولاية اصواتها جمهورية ضرب رئيس تحرير جريدة تبنت المرشحة الديموقراطية. سلاح الموقف يتفوق على محاولة المعرفة.
آخر فرسان الساموراي (اليابانيون في أواسط القرن التاسع عشر) وجد اميركيا يدربه. فارس السفير، طلال سلمان، ابى ذلك: قضايانا يدافع عنها أهلها وحسب.
عشت مع «السفير» من خارجها، خلال السنوات العشر الأخيرة. افتتاحية كل أسبوع. لم أتخلف يوماً عن الكتابة لنهار الجمعة. كنت اعتقد أن لديّ رسالة هي أن اكتب من موضعي في صحيفة انفض عنها من يفترض أن سجلّ قيدي يجعل انتمائي لهم. التوسط لم يعد ينفع. كل مستقل مضطهد، سواء أنا أو جريدة «السفير».
سقطات المهنة عديدة. لكنه يقال إن الصحافة مهنة عقوق، خاصة لمن يعملون في الحقل. تضافرت عوامل سياسية ومالية وتقنية لجعل الاستمرارية غير ممكنة.
نحال جميعنا على التقاعد بما في ذلك قضايانا.
في الفترة الأخيرة كان طلال يحدثنا بصوت خافت. حتى هو يكاد لا يسمع صوته. خفت الصوت. اقتربت النهاية.
في كل مرة أحلت على التقاعد كنت أجد شيئاً أفعله، كنت أجد مجالاً اعمل فيه من اجل شيء أجعله قضيتي. شارف العمر على نهايته وسئمت «سؤال هذا الناس كيف لبيد»؟
حزن عميق على جريدة «السفير» وعلى أنفسنا. قلق شديد على مجتمعنا. شيء ما يتغير. الأكيد أنه ليس نحو ما هو أفضل.
احدى مشاكل مجتمعنا ان القراء من كل نوع انخفض عددهم بقي جيلنا الذي تعود تحسس الورق كل صباح.
تعليقات: