عمشيت تستعد لانتخاب ابنها قائد الجيش رئيساً للجمهورية


مساهمتها في القرار السياسي والوطني تعود الى القرن الثالث عشر

الجنرال سليمان ظلّ عمشيتياً أصيلاً وحافظ على صداقات الطفولة والشباب

ليس غريبا عن عمشيت واهلها ان يتبوأ احد ابنائها مركزا مهما في الدولة. فهذه البلدة الساحلية الهادئة، التي يلف النخيل مداخلها وبيوتها التراثية القديمة، اعطت رجالات كثيرين برزوا في السياسة والفكر والفن عبر التاريخ، واشتهر اهلها بنشاطاتهم السياسية والتجارية والثقافية والاجتماعية والخيرية.

كونت عمشيت نوعا من القوة المالية الكبيرة في بلاد جبيل والبترون في بداية القرن التاسع عشر. وهذه القوة اتت من التجارة التي اعطت أهلها وجودا سياسيا واجتماعيا وثقافيا قويا على صعيد جبل لبنان والمنطقة. وبفضل هذه القوة انطلق اهل عمشيت لممارسة ادوار سياسية مهمة في تلك الحقبة، مع السلطات العثمانية في لبنان ومع بكركي والرهبانيات.

بعد هذا الدور السياسي كان دور اجتماعي فاعل عبر انشاء المدارس والمستشفيات المجانية مما سمح لابناء عمشيت بالتعلم في هذه المدارس ومدارس المرسلين في لبنان واتقان اللغات، وهذا اهلهم لتكون لهم مراكز مهمة في ما بعد. وكما كان سائدا في فرنسا في العائلات الكبيرة، ان يتقدم احد افرادها الى العسكر والرهبنة والمهن الحرة، كذلك كانت الحال في عمشيت في ذلك العصر وحتى اليوم، اذ نجد عددا كبيرا من اهلها في مراكز عليا في الجيش وفي الرهبنة وكذلك في المهن الحرة من محامين واطباء...

عمشيت والسلطة

"يخطىء سياسيو عهد الهمبرغر و"الفاست فود" باعتبارهم وجود عمشيتيّ في السلطة كأنه امر طارئ او حضور من كوكب اخر"، يقول رئيس قسم المرئي المسموع في جامعة الروح القدس - الكسليك بول زغيب ممازحا. هو العمشيتي بامتياز، ويعدّ حاليا اطروحة دكتوراه عن الحياة اليومية العمشيتية من 1831 الى 1943.

وعرض زغيب لنبذة عن الوجود العمشيتي في السلطة منذ بداية القرن الثالث عشر ليفسر علاقة عمشيت بالسلطة كيف تبوأ اهلها مراكز مهمة.

"اول رجل قيادي لعب دورا سياسيا مهما بانفتاح الطائفة المارونية على الغرب وعلى كنيسة روما، هو من عمشيت ويدعى البطريرك إرميا العمشيتي، الذي دعي رسميا عام 1215 من بابا روما اينوتشانتي 3 الى حضور مؤتمر لاتران ببعديه اللاهوتي والسياسي، لأن بابا روما اراد اشراك الطائفة المارونية كشريك كامل باحلامه الشرقية عبر تنظيم حملة صليبية خامسة توفى قبل القيام بها. وهذه الدعوة موجودة في ارشيف بكركي وفي الفاتيكان، اذا ان علاقة عمشيت بالحكم والقيادة ليست حديثة العهد.

وفي فترة ما بعد الوجود الغربي في لبنان، مع الاحتلال المملوكي والعثماني للمنطقة، خفّ تأثير عمشيت، ثم عادت لتبرز بشكل كبير في بداية القرن التاسع عشر، عبر بعض العائلات ذات القدرة الاقتصادية العالية. وفي فترة حكم الامير بشير الشهابي الثاني كان لعمشيت حضور رسمي واقتصادي مهم جدا، عبر مخايل وجبور طوبيا شلهوب، اللذين اسسا امبراطورية اقتصادية مهمة وكانت ابعادها اقليمية وعالمية بتجارتها مع اوروبا وانشاء مكاتب تجارية في مرسيليا وغيرها.

كما كان لعائلة طوبيا شلهوب دور مهم مع فرنسا من خلال استضافتها للمستشرق ارنست رينان، الذي ما تزال اخته مدفونة في عمشيت، ومن خلاله تم الاتصال بنابوليون الثالث واصبح بعدها "المحمي الفرنسي". وخصص جبور طوبيا في وصيته عمشيت بان يبنى فيها مستشفى مجاني للفقراء ما زال يعمل الى اليوم.

وكذلك لعب فارس لحود دورا مهما سياسيا مع الامراء الشهابين واللمعيين، واتهمه المتصرف الاول لجبل لبنان داوود باشا انه يساعد من ماله الخاص يوسف بك كرم لمقاومة المتصرفية، ما دفع المتصرف الى زيارة فارس لحود في ميناء جبيل بمركب بخاري من بيروت، ليسأله عن سبب امداده يوسف بك كرم بالمال، فجاء جوابه الطريف والذكي في آن: "انا ادين من يحتاج الى المال، واذا ارادت دولتكم العثمانية ادينها".

ومن الشخصيات العمشيتية البارزة فارس افندي كرم، الذي عين على عهد المتصرف رستم باشا مأمور مكتب محاسبة جبل لبنان في بعبدا، وانتخب عضوا عن كسروان في مجلس ادارة جبل لبنان ايام واصا باشا.

وفي فترة المتصرفية كان وجود مهم لاسعد بك لحود، الذي انتخب عام 1895عضوا في مجلس ادارة جبل لبنان، بسبب نفوذه وثقافته. وتم تعيينه قائمقاما على جزين في العام 1907 ايام المتصرف فرنكو باشا. ومن ابرز المشاريع التي نفذها شق الطريق بين جبيل وبعلبك.

ويختم زغيب قائلا "بعد هذه اللمحة السريعة ليس بالمستغرب على بلدة مثل عمشيت ان تقدم احد ابنائها لمركز رئاسة الجمهورية في لبنان، لأن هذا التطور طبيعي بالنسبة الى بلدة تعاملت مع الوضع السياسي قبل اعلان دولة لبنان الكبير".

عائلة سليمان

عائلة سليمان تتحدر من عائلة آل كلاّب العمشيتية، كما اوضح مختار عمشيت غطاس سليمان. الاساس هو سليمان عباس، ورد في مخطوط قديم من بداية القرن عن عائلة الكلاّب ان "سليمان بن عباس كان من اصحاب الوجاهة والتجارة الواسعة في لبنان وسوريا وله علاقة ودّية مع السادات فتحية الذين كانوا في ذاك العصر حكام بيروت. وفي عهد رئاسة الاخ يوسف الاهمجي على دير مار مارون عنايا (مار شربل) احد اديرة الرهبانية اللبنانية البلدية، واتباعا لوجه امر ومنفعة لمصلحة الدير اعطى الاخ المولى اليه مبلغا من ارزاق مزرعة كفربعال للدير المذكور، كما تثبت ذلك قيود روزنامة الدير المحفوظة الى يومنا هذا بدون ان يحتفظ لنفسه او لمن يخلفه من ذريته بشيء عن هذه المساعدة الا بحقوق ادبية "لا بل لياقية". ويشار ان سليمان اوقف كنيسة في عمشيت.

وجاء في المخطوط عينه ان بطرس بن سليمان "كان من ذوي الوجاهة ومن التجار المشهورين بذاك الحين، علاقته التجارية بسوريا مع محلات خوري وابيض في حيفا، وبيت مراجل في عكا، وبيت الدنكيز وعلم الدين وياسين منقارة في طرابلس، وجبيلي وسرسق ودباس وتويني وطراد في بيروت".

اشتهر آل سليمان، الذين اكتسبوا الاسم تيمنا بالجد سليمان عباس، بالعلم والتجارة وكانوا من كبار الملاكين في عمشيت وبلاد جبيل. وكانت مشيخة الصلح، وقاضي الصلح مع العائلة لفترة طويلة جدا ابتداء من القرن التاسع عشر الى ما بعد منتصف القرن العشرين. وتولت العائلة رئاسة القوميسيون البلدي في عمشيت لمدة طويلة.

وتوالت العائلة وصولا الى غطاس، جد العماد ميشال سليمان لابيه، وكان مجازا في الحقوق "تعين في شهر ايار 1915 عضوا في لجنة الاعاشة في منطقة جبيل، وعضوا في لجنة القوميسيون المساحة في كسروان، وتعين في شهر تشرين الاول 1915 في مأمورية الاملاك في كسروان مع ابقائه في مأمورية استجلاب البدار والاعاشة لمأمورية كسروان. وفي خلال 1919 عين عضوا ملازما في محكمة كسروان، مع ابقائه في مأمورية التسجيل بناء على امر حاكم لبنان الاداري واقتراح العدلية ولم يزل في المأمورية". يشار الى ان اللجنة كما جاء في المرسوم تألفت من "الامير فؤاد عامر ابي اللمع، وغطاس بك سليم سليمان ومارون بك عبود". وصولا الى الوالد نهاد سليمان الذي خدم في قوى الامن الداخلي. وتحدث المختار سليمان عن علاقة اهل عمشيت في القرن العشرين بالعمل الوطني وعدّد النواب من البلدة وهم: انيس الخوري 1929، زخيا طوبيا 1936، شهيد الخوري (1947، و 1964)، روفائيل لحود (1951)، نجيب الخوري (1966 و1968)، ميشال الخوري (1992)، ناظم الخوري (2000)، وليد الخوري (2005).

وقال ان لعمشيت علاقة وطيدة بالجيش، لأن اهلها تبنوا القضايا الوطنية وبدأت رحلتهم بمساعدة فارس بك لحود لجيش يوسف بك كرم، وتوالى عدد من اهلها على قيادة الجيش: العماد فيكتور خوري، ثم العماد ميشال سليمان، واكثر من 25 ضابطا تبوأوا عددا من المراكز في القوى البرية والبحرية وقوى الامن الداخلي والامن العام.

فرادة الهندسة المعمارية

لعمشيت خصوصية هندسية فريدة، فهي كناية عن احياء وعائلات، ولكل عائلة كنيستها الخاصة وميزتها الهندسية، ولعل كثرة اسفار ابنائها الى اسطنبول والغرب، اغنت هذه الهندسة وشجعت على التنافس في اجمل التصاميم، كما اوضح المهندس انطوان لحود المتخصص في ترميم المنازل القديمة. لا تجد في عمشيت نمطا هندسيا واحدا بل الكثير من النماذج الهندسية المتنوعة والانماط المختلفة. فحتى ضمن المنزل الواحد هناك تأثير اسطنبولي وغربي، فترى القناطر المزينة بالنتوءات التركية والبلاط "الكرارا" من ايطاليا، والرسوم التي تزين الجدران وكذلك الزجاج الملون من البندقية، والحديد المشغول من فرنسا، والقرميد من مرسيليا. في بيت وهبة مثلا مجموعة من الثريات "باكرا" ومرايا "سان غوبان" من الانواع التي اصبح وجودها نادرا اليوم. في عمشيت حتى اليوم 36 منزلا على لائحة الجرد العام للابنية الاثرية، مما ساهم في ايجاد منطقة تراثية لدى التخطيط المدني، للحفاظ على هذا التراث. وكل سنة تنظم بلدية عمشيت مع "عمشيت التراث" يوم الابواب المفتوحة وهو نشاط يتيح للزائر رؤية هذه المنازل التراثية من الداخل. كما اعدت البلدية موقعا الكترونيا www.aamchit.com يسمح لزائره برؤية اكثر من 60 موقعا من الداخل والخارج بطريقة افتراضية (فيرتوييل) مع اكثر من 1000 صورة عن عمشيت، منها من الجو وبعضها نادر. وتعتبر عمشيت اليوم متحفا للتراث الهندسي، لأنها تحتضن انماطاً هندسية مختلفة.

بيت العماد ميشال سليمان في حي المعبور في شارع الدكتور شهيد الخوري، وهو قديم رممه المهندس لحود الذي تحدث عن اصرار سليمان على اعادة الخرائط وتقديم الملف من جديد بعد اضافة شرفة على البيت لم تكن موجودة، وهي لا تعتبر مخالفة الا انه اصر الا يحصل اي تغيير، ولو كان صغيرا من دون التصريح به.

"اطرف ما في قائد الجيش انه يهدي الكتب في كل المناسبات وليس البنادق" يعلق المهندس لحود الذي يهوى جمع البنادق القديمة. وقد قدّم كتاب "مهمة في فينيقيا" لارنست رينان الى مكتبة عمشيت البلدية "ذاكرة عمشيت" عند افتتاحها في ساحة الجيش في وسط البلدة.

خصوصية المجتمع العمشيتي

ماذا عن خصوصية المجتمع العمشيتي؟ يجيبك فايز لحود، الرئيس السابق لنادي عمشيت، أن هناك جوا عاما من الثقافة تميزت به عمشيت اضافة الى عدد المثقفين فيها. ازدهار التجارة وجه اهلها اكثر نحو العلم فزاد عددهم، وهم انتشروا ليعلّموا في الشام وفي الاديرة ومدارس الارساليات مثل عينطورة والاخوة المريميين وغيرها من المدارس الخاصة.

اول مدرسة للاخوة المريميين بدأت في عمشيت بعدما قدّم اهلها الارض، الى جانب "المدرسة الوطنية" التي اسّسها اديب لحود، وازدهرت الحركة الثقافية والمسرحيات التي بدأت تعدّ وتعرض في ساحات عمشيت، ووفرت جوا لاهل عمشيت ليقتربوا من الفنون، من هنا عدد اللذين عملوا في الفنون مثل المخرج المسرحي روميو لحود، الممثلة رضى خوري، الفنان مرسيل خليفة، بطرس وشربل روحانا، المخرج ايلي لحود، الملحن جوزف خليفة، الرسام والممثل بول سليمان، وغيرهم.

وفي اوائل الخمسينات انشأ تجمع من شباب عمشيت ناديها الذي اعطى انطلاقة رياضية واجتماعية وثقافية، جعلته مركزا لاستقطاب المفكرين والادباء والشعراء العرب واللبنانيين الكبار. فلم تعد الثقافة حكرا على المقتدرين، بل عممها النادي على الجميع. بعكس سائر القرى والبلدات خلت عمشيت من الخلافات العائلية، وساهم ناديها في تحريك الاندية الاخرى في المنطقة عبر مهرجاناته الكثيرة والشاملة واسبوعه الثقافي الى الكشاف والمعارض والكورس الغنائي الذي انطلق منه الفنانون، والمهرجانات الرياضية والكرنفالات والندوات الفكرية والثقافية التي خلقت جواً مميزاً لانها وجهت الشباب الى الرياضة والثقافة والفن، خصوصا في مرحلة الحوادث. وكان النادي خلال هذه الفترة ملاذا، وخصوصا للناشئين.

هكذا اصبح النادي مركزا للقاء شباب عمشيت، وخصوصا في الصيف ومن بينهم العماد سليمان الذي شارك في الفرق الرياضية مثل فريق الكرة الطائرة، الى جانب مشاركته في النشاطات الثقافية الاخرى. رغم انشغاله في قيادة الجيش، بقي العماد سليمان على علاقة وثيقة بعمشيت واهلها وخصوصا اصدقائه. فواظب على متابعة النشاطات ورعايتها، كلما سمحت له الظروف. اي انه ظل عمشيتيا محافظا على اصالته، لم تبدله المراكز ولم تتغير صداقاته ولا علاقاته، وهذا ما يميزه كقائد.

هل سيستريح المحارب ؟

انهى العماد ميشال سليمان، المجاز في العلوم السياسية والاقتصادية، كتابه "استراحة المحارب" لكنه لم يصدر بعد. وورد في مقدمة الكتاب "من اوراقه" لفارس غطاس سليمان (كلاّب) كلام نقلا عن مقطع من هذا الكتاب غير المنشور جاء فيه "حري بنا ان نورد في هذه المقدمة البعض مما يذكره ابن شقيقه العماد ميشال سليمان في كتابه "استراحة المحارب": "لا بد لي من ان استحضر بشغف زمن الصبا حين كنت اتردد على العم فارس الاستاذ "العصامي" المرهف الاحساس الذي حاول جاهدا تعليمي اللغة العربية، واقول بكل صدق انه وان لم اتمكن من امتلاك ناصية هذه اللغة، انما اكتسبت الكثير من سمات شخصيته المميزة وسعة اطلاعه، ومعاني شعره وادبه التي طالما استنرت بها في مسيرتي العسكرية. فبالاضافة الى المصداقية والشفافية اللتين تعكسهما ملامح العم فارس، فهو متحرر بطبعه، غنّى الارز والاستقلال، ودافع بكل جوارحه عن فلسطين المغتصبة والعروبة الجريحة، ورأى في النضال وسيلة مشروعة لتحرير الذات والوطن وتحقيق العدالة الاجتماعية ونبذ الطائفية البغيضة... بعطائه وابداعه تستنير الاجيال، وباخلاقه وقيمه تخلد ذكراه...".

تعليقات: