العميد الشهيد فرنسوا الحاج مع العماد ميشال سليمان وعدد من الضباط في موقع متقدم للجيش
كتب العميد الركن فرنسوا الحاج، بالدم الزكي، الصفحة الأولى من «كتاب العهد الجديد». جاءت شهادته خاتمة مدوية لحقبة الخلاف والاختلاف على البديهيات التي كادت تشطر لبنان طوائف ومناطق وجهات ومذاهب وعصبيات وغرائز، فتلغي دولته المتهالكة أصلاً.
كأنما بقرار واعٍ ركب العميد فرنسوا الياس الحاج، سيارته العسكرية، وترك لسائقه ـ رفيق دربه وشريك مصيره خير الله هدوان ـ أن يتقدم به نحو قدره، واثقاً من أنه في طريقه إلى كتابة صفحة مضيئة في التاريخ الجديد.
وعندما دوى الانفجار فمزق شمس الصباح نتفاً واستولد ليلاً جديداً خانقاً بدخان الآمال المحترقة، واغتال السكينة والعصافير ونعاس الأطفال القاصدين إلى مدارسهم، وأهاج قلق الأمهات جميعاً، كانت الفكرة الأخيرة التي جالت في رأس هذا «الفارس من الجنوب» الذي عاش للجندية وفيها، أن «الخطة قد نجحت»، وأن محاولات التعطيل لن تنفع إلا في التعجيل بالتغيير الذي لم يعد يقوى أحد على شطبه من جدول أعمال اليوم... والغد!
العميد الركن فرنسوا الحاج هو مدير العمليات في الجيش.. وبالتالي فلا مجال لمجادلته في الشؤون السياسية!.. فمنذ سنوات ثلاث، في أقل تقدير، ليس للجيش من مهمة إلا حماية القوى السياسية المتعارضة في شعاراتها وأهدافها من بعضها البعض. صارت «العمليات» إدارة سياسية سلمية للصراع بين الأخوة ـ الأعداء المتنافسين على السلطة.
صار على قيادة الجيش، بعمادها وأركانه، أن يسهروا على حماية التظاهرة من المتظاهرين، والرأي أي الموقف السياسي من رعونة خطبائه وزجّاليه والسلطة من أساطين تفسير القانون والدستور، قبل معارضيها، والمعارضة من قوتها التي قد تسكرها فتأخذها إلى الغلط ويخسر شعارها صدقيته.
ولأن العميد الركن فرنسوا الحاج هو ابن رميش، عند التخم الجنوبي مع فلسطين، فهو يعرف إسرائيل جيداً. ما لم يره روته له أمه، أو أخذه عن أبيه... ثم ثقفته التجربة، وبالدم، فلم يعد بحاجة إلى من يشرح له الخطر الإسرائيلي على لبنان كله، بطوائفه جميعاً، والمسيحيين أولاً، لأنها تريد إسقاط «التنوع» حتى تضيف ذريعة جديدة للدولة اليهودية الصافية دينيا في فلسطين... والتي أقيم مهرجان أنابوليس للاحتفال بإطلاق مسيرتها مجدداً بالرعاية الأميركية.
لقد عاش مع أهله تجربة المقاومة الفلسطينية في مواجهة إسرائيل، وكان شاهداً على الاجتياح الإسرائيلي (المؤقت) في العام ,1972 ثم على الاحتلال الواسع والذي وصل حتى نهر الليطاني في العام ,1978 ثم على الاجتياح الإسرائيلي الذي أسقط العاصمة بيروت فاحتلها قهراً في صيف ,1982 ثم لم يكتف «بطرد» مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، بل حاول أن يفرض على اللبنانيين حكماً حزبياً موالياً له بدباباته.
ربما لهذا كله فقد واكب، من موقعه العسكري، نشأة المقاومة الوطنية بفصائلها المختلفة في الجنوب والبقاع الغربي. وشهد تحولاتها السياسية والفكرية، وشهد بالمقابل تعاظم شعبيتها وتعاظم تضحياتها، حتى كان النصر بإجلاء قوات الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار ,.2000 وكان عليه أن يشهد للمقاومة مرة أخرى، عندما تركت أمر من ضلّ الطريق أو انحرف أو فرّط بكرامة بلاده، للدولة أن تقاضيه «برفق»، آخذة في الاعتبار الأسباب التخفيفية لانحرافه.
ولقد رأى في ذلك كله انتصاراً للوطن ودولته بقدر ما هو انتصار للمجاهدين أحياء وشهداء.
العميد الركن فرنسوا الحاج، مدير العمليات في الجيش،
وهو قبل ذلك وبعده رفيق سلاح لقائده العماد ميشال سليمان.. وبينهما كثير من المشترك في الأفكار وفي تقدير المواقف وفي قراءة الأحوال.
وعندما اغتيل الرئيس رفيق الحريري ظهـــيرة 14 شباط 2005 عــرفت قيادة الجيش أن امتحانها الأصعب قد جاء زمانه، وأن لا عــذر لها في عدم النجاح لأن الفشل يُسقط الدولة... فإذا ما سقطت اندثر الوطن.
منذ ذلك الحين فُرض على الجيش أن يكون في الشارع، وأن يكون قوة فصل بين أهله بدل أن يكون قوة ردع في وجه عدو بلاده.
توالت الامتحانات وتوالت النجاحات، وصار الجيش هو الضمانة الأخطر للدولة.. وعندما فجّر الإرهاب المتستر بالشعار الديني «الحرب» في مخيم نهر البارد، نشأت حالة فريدة في بابها: صارت الدولة كلها فوق ظهر الجيش، بدل أن يكون واحدة من مؤسساتها، تحميه وتوفر له السلاح والدعم الجدي الذي يمكّنه من ربح الحرب التي فُرضت عليه، في أقصر وقت، وبالكلفة الأقل.
العميد الركن فرنسوا الحاج يعرف أن البعض ربما افترض آنذاك أن حرب نهر البارد قد تذهب بعصابة «فتح الإسلام» وقد تنهي أيضاً «الطموح السياسي» للجيش، بإظهار عجزه أو ضعفه العسكري.
وعندما وقف أركان الجيش يجيبون على أسئلة أهلهم، عبر الصحافيين، بعد انتهاء الحرب، كان عليهم أن يكونوا صرحاء إلى حد الجرح، وكان عليهم أن يجرفوا بالوقائع بحر الأكاذيب التي روّجت لتمويه الوقائع وإخفاء الحقائق... وبالتالي إدانة الجيش، بشخص قيادته، سياسياً، بعدما حقق النصر عسكرياً، برغم كل الحصار الذي فُرض عليه، بالذخيرة والأسلحة والإمكانات المادية عموماً.
... وصارت الرئاسة في مدى الذراع أمام المؤسسة التي من حقها القول إنها «حمت» لبنان من قياداته السياسية قبل أن تحميه من «الخارج».
صار العماد ميشال سليمان، في نظر أكثرية اللبنانيين، رئيساً للجمهورية، مرجأ إعلان فوزه رسمياً، في انتظار بعض «الشكليات» في الخارج وإن كان صداها في الداخل هو الطاغي بجدله الدستوري الخطير!
وصار العميد الركن فرنسوا الياس الحاج، في نظر كثرة من اللبنانيين، قائداً للجيش في العهد الجديد... أو في مكانة تداني القائد قرباً من «الرئيس» ومشاركة في حماية القرار.
هل هذه الحيثيات كافية لصدور القرار «بإعدام» العميد الركن فرنسوا الحاج كضربة للعهد الجديد لحظة استيلاده بحيث «يفهم» المعنيون حدود الحركة ومساحة القرار؟!
إن جريمة الاغتيال بالنسف الوحشي لحلم قيد التكوين بأن يكون لبنان قد شارف نهاية نفق العذاب والقهر والخوف، لسوف تسرِّع في ولادة العهد الجديد.
وأغلب الظن أنها ستضيف إليه المزيد من القوة ومن إرادة مواجهة الخطأ والقتلة.
وسيكون فارس الجنوب، العميد الركن فرنسوا الياس الحاج، «الملاك الحارس» للعهد الجديد، والأخطر: إن شهادته قد كتبت برنامج هذا العهد، وحددت مراحله وتوجهاته، ولن يكون سهلاً عليه الخروج على برنامج مطرز بدماء الشهداء.
تعليقات: