كان ضحية عملية خطف استمرّت ثلاثة أيام وليالٍ من «ليالي العمر» أمضاها في بريتال. فيما يخشى من التهديدات التي ما زالت تلاحقه من أقرباء الخاطف المفترض أن يبقى محتجزاً بسبب الادّعاء الشخصي! سامر كامل يلاحقه اليوم شعور مستمرّ بأنّه هو الذي أصبح محتجزاً في بلده ومطوّقاً بالاتصالات التي «تدعوه» ليُسقط حقّه في الادّعاء.عملية اختطاف إبن بلدة بزحل (قضاء كسروان) تمّت في 27/12/2015، لدى عودته عند الخامسة صباحاً عبر طريق العقيبة قرب مطعم «الشلالات» وبعدما أوصل صديقته وابنة قريته الى منزلها، عندما حاصَرته سيارة من نوع جيب ونزل منها 5 مسلحين واضطرّوا الى إطلاق النار لتوقيفه...
عن تلك اللحظات يروي سامر: «أصعدني الخاطفون بالقوة في السيارة الثانية التي كانوا يستقلونها، والتي تبين لاحقاً انها مسروقة ايضاً من المنطقة نفسها قبل 5 ايام من تاريخ اختطافي. وبعد الاستقصاء عن هويتي تشاوَروا في ما بينهم إذا كانوا سيرمونني او يصحبونني معهم، لكنهم في النهاية قرّروا اصطحابي بعدما لمسوا أنني ميسور مادياً».
معصوب العينين برفقة خاطفيه، عبر سامر الجبال والوديان حيث أمضى ثلاثة أيام وليالٍ من «ليالي العمر» لا يعلم متى بدأت لكنّه يعلم جيّداً كيف انتهت بعدما ساهم هو في عملية تحريره.
عن ليلة من ليالي العمر أحبّ سامر روايتها لـ«الجمهورية» وعلى طريقته: «منذ قرابة السنة، كنت أقضي ليلتي الثانية في الأسر في بلدة بريتال وكان الخاطفون قد أعدّوا لي ما يُسمّونه «فرش»، وهو كناية عن كتلة قطنيّة سميكة توضَع على الأرض وتستعمل للنوم، وكنت مقيّد اليدين والرجلين ومعصوب العينين.
عند الساعة السابعة أو الثامنة من ليل الإثنين ٢٨/١٢/٢٠١٥، بدأتُ أسمع صوت طلقات نارية متفرقة. وبدأت تحرّكات الشخصَين المولجَين حراستي، والملقبَين «فادي» و«أبو علي»، تَتسارع. ولاحظتُ، من خلال ثقب صغير في العصبة الموضوعة على عينيّ، أنهما يقفزان من شبّاك إلى آخر للتأكد من أن لا أحد يرصد الشقة. وهي كانت كناية عن شقة في طابق أرضي في حي سكني مكتظّ من بريتال، كما تبيّن لاحقاً.
بدا القلق عليهما وكانا يتهامسان بأنّ شيئاً غير عادي يحصل في المنطقة، ورجّح «أبو علي» لـ«فادي» أن يكون الجيش يقوم ببعض المداهمات الروتينية في حي الشراونة في بعلبك».
ويتابع سامر سرده:
«لا أنكر أنّ الطلقات النارية البعيدة كما القلق الذي انتاب خاطفيّ أثلجا صدري، بعد 40 ساعة من المعاناة الجسدية والنفسية، حيث اعتقدتُ لوهلة أنّ هدف المداهمات البحث عني، وبدأت أصدّق أخيراً أنّ شبه الدولة التي عندنا يمكن أن تتحوّل إلى دولة حقيقية في بعض الحالات الاستثنائية. تأثّرت لبعض الوقت وشعرت أنني لست متروكاً لأمري. تخيّلت أنّ الجيش بدأ يبحث عني بعدما علم بمصيري وبالمنطقة التي نقلني إليها الخاطفون.
لحظات الأمل هذه أعطتني شعوراً بالغلبة على الخاطفين، وكنت أتخيّل اقتحام قوات خاصة من الجيش الشقة وتحريري. تخيّلتُ هذه اللحظة بألف طريقة وطريقة... حتى سمعت صوتاً مألوفاً هزّ كياني. فكان صوت نشرة إخبارية على التلفاز عند الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، ومصدره الشقة المجاورة.
وكانت مقدمة النشرة تسرد أنّ عناصر من الجيش، مدعّمين بقوة من المغاوير، يدهمون بلدة دار الواسعة في بعلبك بحثاً عن المتهمين في جريمة بتدعي، وقد أكد المراسل أنّ الجيش يطوّق أحد المباني وداخله 3 من المتهمين، وأنّ تبادل النيران أدى إلى استشهاد جندي وإصابة 3».
يتابع سامر روايته: «مشاعر متناقضة اجتاحتني، فمن جهة شعرت بالحزن لاستشهاد الجندي حيث غالباً ما يكون الجنود الذين يستشهدون خلال المداهمات صغار السن، ومن جهة ثانية شعرت بفخر عارم لأنني اعتقدت أنّ عناصر الجيش وخلال بحثهم عني قد وَقعوا صدفة على المطلوبين بجريمة بتدعي التي حصلت قبل تلك الليلة بنحو السنة.
فامتلأ قلبي فخراً، وشعرت أنّ الله لن يسمح لمعاناتي أن تذهب سُدى، وقد أراد من خلالها ألّا يفلت المجرمون من آل جعفر الذين قتلوا نديمة وصبحي الفخري من عدالة الأرض قبل أن يمثلوا أمام عدالته السماوية. كما شعرت بالفخر بالجيش اللبناني والدولة، واعتقدتُ عندها أنّ ما حصل منذ بضع سنوات مع المخطوف جوزف صادر لن يتكرر معي».
وقد علمت لاحقاً من مرجع أمني كبير أنّ الجيش اللبناني كان قد أعدّ العدة لعملية دار الواسعة سابقاً، وأنّ عملية اختطافي ومعرفة فرع المعلومات أنّ الخاطفين قد اقتادوني إلى بعلبك قد سَرّعت في توقيت العملية لزيادة الضغط عليهم.
ويكمل سامر روايته: «في تلك اللحظات دخل «أبو علي» إلى الشقة بعدما غادرها لبعض الوقت ليتبيّن حقيقة ما يحصل، وطلب من «فادي» أن يلاقيه إلى الغرفة المجاورة حيث سأله بنبرة غاضبة: «شو عم يعمل هالـ الحيوان عندك؟ (المقصود أنا)»، فأجابه بأنني نائم، وقد كنت طوال مدة اختطافي (ثلاثة أيام) مستيقظاً ولكنني كنت أتظاهر أحياناً بأنني نائم لكي يتكلم حرّاسي بوضوح وحرية أكبر بلا ألغاز، لعلّني ألتقط بعض الإشارات عمّا يحدث حولي.
عندها، تكلم أبو علي بصوت مرتفع لا يخلو من الارتباك، فقال: «سكوت يا زَلمي، كانت راحت عليّي. كنت قاطع حدّ مفرق الشراونة وقايمة القيامة، الكلاشن بالجيب والجِعبي حَدّي والقنبله عالتَابلو، وطلِعلي حاجز فجأة بس زَمَطت ما وقّفوني! خِربانِة الدني بالشراونة وبدار الواسعة، الجيش عم بيداهم بس صَعبه يفوتو لَهون (بريتال)».
ويُكمل: «في تلك اللحظات، قررت الهروب أو على أقل تقدير مساعدة الدولة على إيجادي من خلال الوصول إلى أيّ وسيلة اتصال متاحة. وفعلاً، وبعد ست ساعات من التخطيط والتفكير وبعد مساعدة ربّانية، إستطعت تحرير يديّ والكشف عن وجهي، فسرقت الهاتف الخلوي العائد للملقّب «فادي» من تحت مخدته في مشهد سوريالي لن أنساه، وقد كان نائماً على سرير يشرف عليّ وأنا نائم على الأرض، وكانت الساعة 6 فجر الثلثاء ٢٩/١٢/٢٠١٥.
بعثت رسالة نصية مشفّرة لشقيقي باسم ومَحوت كل أثر لها، أعدتُ الهاتف إلى مكانه، كما أرجَعت العصبة الى عيني، أدخَلتُ يدي إلى الشريط اللاصق مجدداً وعدت إلى الوضعية التي كنت فيها على الأرض تحت الغطاء وانتظرت الفرج. كنت أرتجف رعباً كلما تخيّلت ما سيكون مصيري إذا اكتشفوا أمر الرسالة النصية التي كتبت فيها أربع كلمات فقط، فقلبت الأسود إلى أبيض: «سامر - معلومات - لا تتصل - موقعي».
ويكشف سامر أنّ مدير مخابرات الجيش أكّد له، عندما قابله لاحقاً، أنّ هذه الرسالة أنقذت حياته، فقد استطاع فرع المعلومات من خلالها معرفة أسماء المجموعة الخاطفة بما أنّ الرقم الذي سرقه سامر هو الرقم الشخصي للملقّب «فادي»، كما استطاع معرفة مكان احتجازه. وقد وُضِعَت المعلومات هذه في عهدة استخبارات الجيش.
عن لحظات تحريره يروي سامر «توجّه بي الخاطفون الى مفرق بريتال، وعلى رغم الاوامر التي أعطيت لهم بالإفراج عنّي ولَو بـ»بَلاش» لم يصدّق أهلي انّ الخاطفين لم يعودوا يريدون مبلغاً كبيراً من المال، لذلك لم يصدقوا انه سيتمّ الإفراج عني في تلك الليلة...
امّا الطريف فهو أنّ الخاطفين أصرّوا على ابتزاز العائلة في اللحظات الأخيرة، فقالوا لسامر: «الأوامر أن نفرج عنك ولَو بـ بَلاش، الّا اننا بـ بلاش سنطلق النار على رجلك ونرميك على الطريق، اما اذا دفعت ايّ مبلغ فلن نطلق النار على رجلك». وعبر الهاتف قال الخاطفون لعائلة سامر: «لن نفلته بـ بلاش بالمرّة، اعطونا أيّ شي مَعكن».
ولذلك، قرر اهلي دفع 8000 آلاف دولار أميركي بعد أن أنزلوني الى مفرق بريتال، من هناك صعدتُ بفان أرسله فرع المعلومات كان بانتظاري، وبعد ان أوصل إليهم مبلغ 8000 آلاف دولار عاد بي الى زحلة.
وفي الليلة نفسها وقبل طلوع الفجر، تمّ القبض على رئيس العصابة حمزة جعفر، وهو مسؤول عن استشهاد جندي في الجيش وعن عمليات خطف عدة إضافة إلى قطعه قبل مدّة طريق دير الأحمر على المطران خليل علوان وتهديده وإهانته».
ويضيف بفخر: «رسالتي النصية أدّت إلى كشف أسماء 4 من المجرمين الضالعين في عملية اختطافي، فالملقّب «أبو علي» هو دركي مطرود مسلكياً وقد كان أكثر عقلانية من بقية المجموعة وكانت معاملته لي مقبولة نسبياً مقارنة مع الباقين، حتى أنه دافع عني في إحدى المرات ووقفَ في وجه رئيس العصابة طالباً منه أن يتوقف عن سَبّ الدين المسيحي، كما أنه لم يضربني إلّا مرة واحدة عندما باءت محاولتي للهرب بالفشل في مساء اليوم الأول، فيما سانَده شخص آخر سوري الجنسية كان برفقته في الليلة الأولى.
أمّا الملقّب «فادي»، فقد كان رجلاً خمسينياً وقد عاملني بإنسانية وشهامة طوال الوقت، ولَو علم زملاؤه بكيفية معاملته لي أثناء غياب «أبو علي» عن الشقة لقتلوه ربما، حتى أنه بكى فرحاً عندما علم بأنني سأتحرّر، وكان يقسم طوال الوقت أنه مجرد موظف عند رئيس العصابة، يقبض راتباً شهرياً وحياته مهددة إذا رفضَ أيّاً من طلباته. فـ«فادي» (إسمه معروف الآن) رجل طيب لكنه كان في المكان الخطأ، وأنا مؤمن بأنّ الله وَضعه في طريقي في ذلك الوقت لكي يخفّف معاناتي».
ويؤكد سامر: «مشكلتنا الحقيقية ليست معهم، مشكلتنا مع زعمائنا ودولتنا التي تسمح لعصابات كبيرة بأن يكون لها مناطق مَحميّة. كما تسمح، وعن سابق تصور وتصميم، بإبقاء طريق العقيبة-يحشوش-أدونيس/جبيل-قرطبا-لاسا-بعلبك سالكة وآمنة لجماعة الجريمة المنظّمة، وتحديداً سرقة السيارات والمخدرات، إذ يمنع على أيّ من أجهزة الدولة مراقبتها بوَصفها «الجريمة المرخّصة المدعومة».
وبكل جرأة قالها سامر لخاطفيه: «أنا أسامحكم ومشكلتي ليست معكم. مشكلتي مع دولتي. أنتم مجرد شباب ضائعين ولا تعلمون ماذا تفعلون». ويختم سامر سرده: «رحلة الأيام الثلاثة هذه قلبت حياتي رأساً على عقب، وخَسّرتني الكثير مادياً عَدا عن الفوضى العارمة التي تسبّبت بها في حياتي اليومية.
فقد خسرت سيارتي وأغراضاً مهمة وأوراقي الثبوتية ومفاتيحي، لكن اليوم لا يمكنني أن أتخيّل حياتي من دونها. فقد تضاعفت قوتي وخبرتي ومعرفتي أضعافاً، وأنا متأكد الآن أنّ خاطفيّ تعلموا دروساً كبيرة مني، وسأسرد في المستقبل عندما يصبح الوقت مناسباً كل ما دار بيني وبينهم من حديث في اليوم الثالث والأخير، ومن المؤكد أنني لن أنساهم ما حَييت، لكنّ المؤكد أيضاً أنهم لن ينسوني أبداً».
تعليقات: