لا شيء في محيط المكان يوحي أنك ستشتهي الوقوف لانتظار دورك
لا شيء في محيط المكان يوحي بأنّك ستشتهي الوقوف في طابور لتناول "أطيب لحمة غنم"، كما يقال عن ملحمة الحاج فريد، التاريخية في طرابلس. المراحيض العمومية على يمينك، ومقبرة الموتى أمامك، وعلى حائطها مدخنة طويلة تتصاعد منها روائح المشاوي. لكن شيئاً من السحر يجذب الناس منذ أكثر من 50 عاماً. إنه سحرُ الرائحة الذي لا يستثني أحداً من طبقات المدينة، كما من سكان مناطق الشمال. يقول فادي، ابن الحاج فريد، لـ"المدن": "يأكل من لحمتنا الفقراء ومعدومو الحال، كما الأغنياء وأصحاب السيارات الفخمة".
يقف صاحب الوجه الضحوك علي بلان (37 عاماً) خلف طاولة خشبيّة مستطيلة. على شماله غرفة صغيرة يتناول منها أواني الكفتة النيّة التي يُعدّها فواز الشامي (65 عاماً)، ويضعها بلان من بعده في الأسياخ، كمن يلعب في مهرجان للخفة والسرعة. كل 10 أسياخ، تحتاج معه أقل من دقيقة. يعمل، ثم ينادي الناس من حين إلى آخر بأعلى صوت: "قرّب على الطيب قرّب".
كبر علي في هذه الملحمة وتربى على يد الحاج فريد. يقول: "قبل 30 عاماً، اصطحبني والدي وأنا ابن السابعة إلى الحاج فريد، وطلب منه أن يعلّمني أصول المهنة. كنت أقف على خشبة كي أصل للطاولة. كنت أراقب وأتعلم، إلى أن أصبحت معلّماً ماهراً في شك اللحوم بالأسياخ، وأصبح هذا المكان جزءاً من طفولتي وذاكرتي، فلم أستطع أن أغيره أبداً. هنا الناس أحبتني واعتادت على وجودي، وأنا اعتدتُ عليهم".
شهرة الملحمة المتواضعة، أعطتها رمزيةً استثنائيّةً على مدار العقود الستة الماضية. فإسم الحاج فريد، أشهر من نار على علم في طرابلس والشمال، ونجوميته لا تقل عن نجومية سياسيي المنطقة. الفارق هنا، أن الجميع متفقون على محبّة الحاج فريد، التي يقولون إنها ترتفع من البطن إلى القلب مباشرةً.
يقول فريد: "استطعنا أن نحافظ على إسمنا في شوي الكفتة واللحمة الشقف والسودة، فنحن فنانو المصلحة الذين لم يجد زبائننا بديلاً lنا". يضيف: "علّمني والدي كيف نختار الخاروف الأشهى لنحافظ على تميز لقمتنا. كنت أراقب شغفه في تحضير المشاوي للزبائن. كان يخشى أن يتهمه أحد بالبخل، فكان سخيّاً، يفرح الناس بصحونه وسندويشاته التي يصفونها بالمدللة".
محيط الملحمة لم يؤثر على الزبائن، إنما أضفى عليها استثناءً مميزاً. فـ"النفس تأكل قبل العين"، يقول الحاج حمد (75 عاماً)، الذي يواظب منذ 50 عاماً على زيارة ملحمة الحاج فريد كل صباح. يلتقي يومياً مع صديقيه علي (69 عاماً) من جبل محسن ويوسف (73 عاماً) من منطقة القبة، "لأفطر قليلاً من السودة المشويّة مع أصدقائي الذين تعرفت عليهم لدى الحاج فريد، قبل أن أفتح محل خضرة على جسر أبو علي".
كذلك مريم حيدر من البحصاص، وهي مدرّسة في التعليم الثانوي، تأتي يومياً إلى ملحمة الحاج فريد بعد انتهاء دوامها. "منذ 10 سنوات، ثمة شيء يجذبني إلى هذا المكان. أحب جلسة الدراويش وبساطتهم، وأجدهم أكرم وأصدق من المطاعم التي تبهرنا بأضوائها. هنا اللقمة أنظف وأشهى، وقد اعتاد أولادي على إحضار الطعام من هنا عندما لا يتسنى لي أن أحضّر لهم الغداء". تضيف مريم: "كلما جئت إلى هذه الملحمة، لا أستطيع مقاومة تناول سيخ لحمة من على النار مباشرة، وهو ينزّ على الخبز".
بعدما بلغ الحاج فريد 86 عاماً، سلّم ابنه فادي الملحمة بسبب مرضه وتعبه الجسدي، وأعطاه توصيات الحفاظ على الزبائن. "في كلّ جولات المراقبة الصحيّة التي جرت في عهد وزير الصحة وائل أبوفاعور، بقينا مطابقين للمواصفات. فوالدي اشتهر بنظافته. رأس مالنا هذا البراد النظيف مع المنقل الكبير والطاولة الخشبية وعدد من الكراسي. لم نفكر يوماً أن ننتقل إلى منطقة أخرى وافتتاح مطعمٍ كبير. فهنا رزقنا الذي لن نغادره، وسيبقى محفوراً على حائط المقبرة إلى الأبد".
* المصدر: المدن
تعليقات: