الطلب على القروض السكنية تراجع إلى حدوده الدنيا
بعد مصرف الإسكان، تستعد المؤسسة العامة للإسكان للإعلان قريباً عن خفض أسعار الفائدة على قروضها الجديدة من 4.67% و5% إلى 3.25% و3.50%، أي بما نسبته 30% تقريباً. يهدف هذا النوع من الإجراءات الى تشجيع الطلب على شراء المساكن من أجل دعم قطاع البناء وتصريف السيولة بالليرة المتراكمة لدى المصارف، فضلاً عن تخفيف حدّة التململ الاجتماعي. تتوقع مصادر مصرفية أن تنسحب إجراءات خفض أسعار الفائدة لاحقاً على جميع أنواع القروض السكنية، طالما أن ذلك يحصل عبر دعم إضافي يوفره مصرف لبنان ولا يمسّ أرباح المصارف
في نهاية تشرين الثاني الماضي، تفرّد مصرف الإسكان بالإعلان عن خفض الفائدة على قروضه السكنية الجديدة من 5% إلى 3%. كان الإعلان بمثابة «مفاجأة» من العيار الثقيل عزّزت قدرته التنافسية ووفّرت له فرصة التقدّم على غيره في سوق القروض السكنية. لكن مصرف الإسكان لم يكن وحده يسعى الى مثل هذه الخطوة، إذ كان يقوم بمساعٍ مشتركة مع المؤسسة العامة للإسكان لانتزاع موافقة المصارف.
نجاح الأول، أي مصرف الإسكان، كان أسهل وأسرع كونه مملوكاً بنسبة 20% من الحكومة اللبنانية وبنسبة 80% من المصارف اللبنانية وكلاهما ممثلان في مجلس الإدارة، ما أتاح اتخاذ قرار سريع بخفض الفائدة إلى 3%، إلا أن الأمر لم يكن بهذه السهولة والسرعة لدى المؤسسة العامة للإسكان، فهي واجهت أصلاً في السابق مشاكل عدة مع المصارف بسبب ضعف سيولتها وإحجام الدولة عن إمدادها بحاجاتها التمويلية لتسديد المتوجبات عليها للمصارف عن القروض المدعومة. فالمؤسسة تدفع عن المقترض الفوائد خلال الفترة الأولى من القرض، وفي الفترة الثانية يسددها المقترض للمؤسسة، ما يعني أن عليها الانتظار لفترة طويلة قبل استرداد ما دفعته أصلاً للمصارف. كان يجب ردم هوّة السيولة بين فترة التسديد وفترة القبض. وبالتالي فإن خفض الفائدة كان يتطلب توقيتاً مناسباً في السوق.
بدا التوقيت مناسباً قبل أشهر، إذ تبيّن أن الطلب على القروض السكنية تراجع إلى حدوده الدنيا، ولا سيما الطلب على الشقق الصغيرة والمتوسطة، علماً بأن الشقق الكبيرة والفخمة تشهد ركوداً منذ سنوات، وهي لا تقع ضمن مجال تمويل المؤسسة العامة للإسكان، بل إن مجالها يغطّي القروض التي تستفيد منها الطبقات المتوسطة ــ الدنيا، وهذا هو الفرق الأساسي مع مصرف الإسكان الذي يغطّي قروضاً للطبقات المتوسطة العليا.
هكذا وجدت المؤسسة العامة للإسكان نفسها وحيدة في مفاوضاتها مع المصارف. استمرت المفاوضات أشهراً عدّة، من دون أن تثمر عن أي نتيجة، إلى أن جاءت موافقة المصارف على خفض فائدة مصرف الإسكان إلى 3%. عندها تسلّحت المؤسسة بهذه الورقة من أجل الضغط باتجاه انتزاع موافقة المصارف على خفض مماثل. قوّة هذه الورقة أن مصرف الإسكان منافس للمصارف في سوق القروض السكنية خلافاً لما هي عليه الحال مع المؤسسة العامة للإسكان التي تمنح القروض عبر المصارف نفسها ضمن برنامج معروف باسم "قروض المؤسسة العامة للإسكان"، الذي يستأثر بالحصّة السوقية الأكبر.
في الواقع، تسلّحت المؤسسة بورقة ثانية لا تقل قوّة. إذ ظهرت هوّة واسعة بين القروض السكنية الممنوحة من المصارف بواسطة برامج مع جهات حكومية أخرى، مثل القروض السكنية لأفراد الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة والقضاة وسواهم، التي وقّعت عقوداً مع المصارف لمنح قروض بفائدة 1.6%. ففي المقابل، إن فائدة القروض الممنوحة عبر المؤسسة العامة للإسكان تبلغ 4.67% إذا كانت مموّلة من الاحتياط الإلزامي، و5% إذا كانت مموّلة من قروض مصرف لبنان. هذا الفرق الكبير أثار تساؤلات عبّر عنها رئيس مجلس الإدارة المدير العام للإسكان روني لحود على النحو الآتي: «لماذا هناك تمييز بين موظفي القطاع العام، فالأجهزة العسكرية تحصل على فائدة متدنية، فيما يحصل الموظفون في القطاعات المدنية على فائدة أعلى، وهذا التمييز ينسحب أيضاً على موظفي القطاع الخاص؟».
إذاً، أوراق التفاوض بيد المؤسسة بدت قويّة، لكن الأمر يتطلب قراراً من مصرف لبنان. عندها قرّر لحود وضع المسألة أمام حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، بوصفه الجهة المعنية بإقرار التمويل وهو بمثابة الهيئة الناظمة للقطاع المصرفي في لبنان. وبحسب مصادر مطلعة، فإن لحود سمع كلاماً مشجعاً من سلامة، طالباً منه فرصة زمنية لدرس الموضوع مع المصارف من أجل التوصل معها الى موقف موحّد، ولا سيما أن بعضها أبدى تشدداً، فيما أبدى بعضها الآخر تجاوباً. في كل الأحوال، إن قراراً كهذا لم يكن ليصدر من دون «فكفكة» عقد التمويل التقنية. فالمعروف أن قروض المؤسسة العامة للإسكان مدعومة من مصرف لبنان بواسطة نوعين من آليات التمويل؛ الأول هو الاحتياط الإلزامي، إذ إن المصارف تحصل على إعفاء من الاحتياط الإلزامي بنسبة 80% من مجموع القروض السكنية التي تمنحها بواسطة المؤسسة العامة للإسكان. والثاني يتعلق بالقروض التي تحصل عليها المصارف من مصرف لبنان بفائدة 1% مقابل إقراضها في السوق، سواء عبر المؤسسة العامة أو غيرها، بفائدة لا تتجاوز 5%. وبالتالي، فإن نوعية التمويل تفترض معالجة على أكثر من خطّ، إلا أن ذلك يتطلب في البدء الاطلاع على طريقة احتساب كل آلية من آليات التمويل المدعومة عبر المؤسسة العامة للإسكان:
ــ بالنسبة إلى الإعفاء من الاحتياط الإلزامي، فإن الفائدة المحتسبة على المقترض تبلغ 4.67% وهي مكوّنة من: تمويل مصرف لبنان + هامش ربحية للمصرف. تمويل مصرف لبنان يتمّ عبر السماح للمصارف بتحرير جزء من الاحتياط الإلزامي لديه بنسبة توازي 80% من قيمة القرض الممنوح منها. وبحسب القوانين المرعية، فإنه يلزم على كل مصرف أن يضع 20% من ودائعه بالليرة لدى مصرف لبنان، و15% من ودائعه بالدولار. وبالتالي، فإن تحرير قسم من الاحتياط يتيح للمصرف استعمال مبلغ إضافي للإقراض المنتج للأرباح. أما هامش ربحية المصرف من خلال الاحتياط الإلزامي فهو يبلغ 3.5%.
ــ بالنسبة إلى قروض مصرف لبنان بفائدة 1%، أو ما يعرف بالتعميم 313، فإن آلياتها تنصّ على الاستفادة بنسبة 80% من الاحتياط الإلزامي + الحصول على قرض من مصرف لبنان بفائدة 1% + هامش ربحية للمصرف، على أن تكون فائدة القرض للزبون لا تزيد على 5%.
طالب لحّود بأن تخفض المصارف هامش ربحيتها إلى 2.25%، ما يتيح خفض الفائدة على المقترضين إلى حدود 3%، لكن المصارف رفضت في البدء هذا الأمر وطلبت المزيد من الدرس. حجّة المصارف كانت أن القروض السكنية لدى البرامج الموقّعة مع القوى الأمنية فيها ضمانات مرتفعة، سواء في حال الوفاة أو في أي من الأحوال الأخرى، إذ إن المؤسسات مسؤولة أمام المصارف في حال عدم سداد المقترض دفعته الشهرية، أما في حالة القروض عبر المؤسسة العامة للإسكان، فإن الضمانات المتوافرة هي الرهن العقاري حصراً، ما يجعل المخاطر أعلى.
هذا المنطق لم يكن سائداً بين كل المصرفيين، فمنهم من كان يعتقد بأن هوامش الربحية مجزية، ومنهم من يرى أن السوق العقارية في أسوأ حالاتها اليوم، وأن تحريك الطلب يتطلب تنازلاً ما مشروطاً بالحصول على زيادة من الإعفاء من الاحتياط الإلزامي، ولا سيما أن المصارف لديها اليوم مبالغ كبيرة بالليرة اللبنانية ضمن محافظها نتجت من تنفيذ مصرف لبنان هندسات مالية خلال الأشهر الماضية.
في حصيلة المفاوضات، بحسب ما كشفت مصادر معنية، توصل الطرفان الى اتفاق ينص على رفع نسبة الاحتياط الإلزامي المحرر في مقابل كل قرض من 80% إلى 90%، في مقابل خفض فوائد القروض السكنية عبر المؤسسة العامة للإسكان إلى 3.25% للقروض الممولة من الاحتياط الإلزام الصافي، وإلى 3.5% للقروض الممولة من قروض مصرف لبنان المدعومة والاحتياط الإلزامي. وتشير هذه المصادر إلى أن مشروع التعميم الذي اتفق عليه بين المؤسسة وجمعية المصارف سيدرس الأسبوع المقبل في المجلس المركزي لمصرف لبنان، ويُتوقع أن ينال موافقته ليبدأ تنفيذه فوراً.
الطلب يتحرّك
يبلغ عدد القروض السكنية الممنوحة سنوياً من المؤسسة العامة للإسكان نحو 5 آلاف قرض. السقف الأعلى للقرض الواحد محدّد بقيمة 270 مليون ليرة. وتمثّل قروض المؤسسة أكثر من 60% من القروض السكنية في لبنان، فيما يستحوذ مصرف الإسكان على 4%، وتمثل القروض الممنوحة بواسطة برامج مع المؤسسات الرسمية والقروض المدعومة الأخرى نحو 36%. ومن المتوقع أن يرتفع الطلب على القروض العقارية ذات القيمة الأدنى، أي التي يمكن للمؤسسة العامة للإسكان أن تموّلها، مع قانون تحرير الإيجارات. ويقول رئيس مجلس الإدارة المدير العام للمؤسسة روني لحود، إن البحث قائم من أجل إيجاد «منتج» مناسب لهذه الفئة المهمّشة التي لا يمكن تركها على قارعة الطريق والتي قد لا تتمكّن من الحصول على القروض المتوافرة في السوق.
تعليقات: