مفاجىء كان رحيل شيخ الشباب، الأنيق والطيّب وجيه نحلة. في أقلّ من شهر حصد الموت ثلاثة وجوه فنّيّة تشكيليّة لبنانيّة: سلوى روضة شقير، زوهراب ووجيه نحلة الذي غادرنا وهو يقف شامخاً كجبل في عزّ حضوره..
وجيه نحلة مالىء الدنيا وشاغل الناس، تكاد شهرته تعادل شهرة بابلو بيكاسو بين العامّة؛ الوحيد بين الفنانين التشكيليين اللبنانيين الذي يعرفه القاصي والداني، الصغير والكبير، المواطن اللبناني والعربي، الفنان وغير الفنان بسبب تاريخه الفني وعطائه المستمرّ في لبنان والخارج، عرف كيف يصل إلى عقول الناس وأفئدتهم وأذواقهم فنيّاً وإعلاميّاً. كان جريئاً بخلاف الآخرين، لا يتوانى عن تنفيذ لوحاته أمام الحضور بثقة فائقة بالنفس، وعلى طريقة التعبيريّين التجريديّين، كأن نذكر الفنان الفرنسي جورج ماتيو الذي أتى إلى بيورت في ستينيّات القرن الماضي ليرسم لوحة جدارية ضخمة أمام حشد كبير من المهتمّين بلعبة أدائيّة راقصة استعراضيّة اتقنها جيّداً الفنان نحلة الذي وصلت لعبته اللونيّة، بسمفونيّتها المضيئة، إلى قلوب محبّي الفن التشكيليّ، فكان ذكيّاً في ذلك، متفاعلاً، حاضراً في معظم النشاطات الفنيّة (نقلت بعضها محطات التلفزة مؤخراً) والمعارض، فتحسّه شابّاً مقداماً في مستهلّ تجربته. يعرف الجميع، والجميع يعرفه، متواضعاً، متألقاً، متأنقاً كعروس تحيا عرسها الدائم. مبتسماً، مرحاً، صديقاً طيّباً مخلصاً، يلقي التحيّة ويغمرك بمحبّته وقلبه. صفات إنسانيّة قبل الصفات الفنيّة. غار منه الكثيرون، وقلّده الكثيرون، فأصبح مدرسة في اللون والشكل والحركة، كما حصل مع سلفه الفنان الكبير شفيق عبّود.
غادرنا وجيه، فلن نعد نلتقي بالوجه الباسم المتفائل الذي يلوّن نشاطات جمعيّة الفنانين بالرغم من تقدّمه في السن (85 عاماً) الذي لم يكن يوماً عائقاً أمام إبداع وحركة هذا الفنان.
تتلمذ على يد الفنان مصطفى فرّوخ الذي أخذ منه نحلة الكثير على صعيد اللون والواقعيّة الأكاديميّة. مرّت تجربته بمراحل عدّة استوحى في بعضها مصادر قديمة والفنون الشرقيّة والفن العربيّ الإسلاميّ، ولا سيّما الحروفيّة. تعامل مع الحرف العربيّ كرمز حيث الألف تُشير إلى وحدانيّة الله الخالق. هذه الحروفيّة التي بقيت روحيّتها معشعشة في تآليفه فيما بعد من خلال العموديّ والأفقيّ اللذين يخزنان المائل والمنحنيّ لتنويع الحركة وإظهار بهجتها. حتى الحصان والإنسان عنده تحوّلا إلى عنصرين في هذه اللعبة الأيقونيّة- التعويذة.
عاد وجيه في أعماله إلى الأصول بعمقها وداخليّتها، وليس بمظهرها. في أعماله روحانيّة صادقة دافئة تخطّى بها بعض فناني الغرب، كأن نذكر على سبيل المثال فاسيلي كاندنسكي وبول كلي ومارك توبي، وغيرهم...
حمل الجنوب ، مكان ولادته، بقلبه ومرسلته، فجاءت ثورته الفنيّة ترجمة لهذا الحبّ والانتماء..
"لكلّ امرئ من اسمه نصيب"؛ كان وجيهاً بكلّ ما تعنيه الكلمة. كلّيّ الحضور. كان كالنحلة التي تنشر عسلها غذاءً للناس، لكنه يختلف عن هذه المخلوقة الصغيرة الجميلة بأنه ينتج عسله في كلّ الأوقات والفصول والأمكنة دون كلل أو ملل...
يقول العلماء إذا مات النحل مات الإنسان..
وجيه نحلة.. عسل الفن.
تعليقات: