لم يعر الموت اهتماماً، ولم يبال، ولو انه فعل، لما رحل باكراً، كحلمٍ قصير. قدره اغرم به، فأعطاه القلم ليكتب تفاصيل حياته بنفسه. وتواطأ واياه، على كتابة نهايةٍ للقصة، فاذا بهما يدمعان عيون الاحبة في الحلقة الأخيرة، ربما لأن الاستمرارية كانت مملة، والحياة أضحت تفاصيلها القادمة باهتة، والعمر من نسج الخيال، والقفص الذهبي الكبير ما كان ليغري عيوناً من الماس.
ولا أحد يدري ما كان يحضره الرجل المتصوف، ومعلمه الهندي، الذي ربما ابلغه سرّ اللحظة الأخيرة، وأوصله الى مرحلة الزهد المطلق بالعالم المحسوس، لتكون نهاية تكرار المولود وتحرّر النفس من ملذاتها، وثباتها وسلامها العميق، مع كمال.
وبعد أربعين سنة على الرحيل، السؤال "المعلوم المجهول" عن هوية أبله يجهل ان حياة الزنبقة في اثرها، لا في عمرها المديد، لا يزال مطروحاً حتى الساعة.
أخبار ذات صلة
كمال جنبلاط و41 عاماً من النضال: أعرف متى سأموت
من قتل الزنبقة؟
تعود بنا الحكاية الى أسابيع قليلة قبل استشهاد كمال جنبلاطعندما استلم الملازم سكابا، ضابط في سرايا الدفاع، سيارة من الجمرك اللبناني لتنفيذ العملية.
على طريق دير دوريت في الشوف، ترصّد عنصران من سرايا الدفاع سيارته، في طريقه من المختارة الى بيروت، ونجحا في تنفيذ عملية الاغتيال، وما لبثت مساعيهما الاجرامية ان ضربتها قوّة كونية، فتعطلت السيارة فجأة، وهربا عائدين ادراجهما هرولةً في البراري.
صاحب السيارة التي استخدمت في تنفيذ العملية من عائلة الصباح، قتل في حادث سيارةٍ في الكويت بعد 20 يوماً من اغتيال المعلم. ومن أمر بتنفيذ العملية آنذاك هو رفعت الأسد شخصياً، لكن تدهور العلاقة بين الأخير والنظام السوري في المرحلة الاخيرة دفعه الى تضليل التحقيق والتبرؤ من الجريمة، وتحميلها شخصياً الى ضابط المخابرات ابرهيم الحويجي الذي كان متواجداً في سن الفيل آنذاك، والقول انه تلقى امراً مباشراً من حافظ الأسد بتصفية جنبلاط، هدفاً منه في تحجيم النظام السوري مباشرةً من خلال تحميل ما حصل لشقيقه، قائد النظام الاساسي. الحقيقة ان التحقيق وصل الى مرحلة القول ان من اغتال كمال جنبلاط هو سرايا الدفاع بامرة رفعت الاسد. الرواية المذكورة كاملة نقلها لـ"النهار" صديق كمال جنبلاط الصدوق وآخر حلفائه السياسيين النائب السابق البير منصور، الذي يستبعد فرضية وثائقي قناة الجزيرة "الصندوق الأسود" التي أشارت الى تورط ابرهيم الحويجي الذي أصبح لاحقاً قائداً لجهاز المخابرات الجوية، أقوى الاجهوة الأمنية السورية واكثرها نفوذاً.
ويبدأمنصور حديثه بجملةٍ معبّرة: "لم يعد احد يجرؤ على تأييده. حلفاؤه السياسيون خافوا وتخلّوا عنه وتبرؤا من مواقفه السياسية. وكنت انا آخر من بقي الى جانبه".
كان كمال جنبلاط يومها يشهد زمن الخسارة الكاملة. تنبّه الى حساسية دخول الجيش السوري الى لبنان، لأن لسوريا مصالح مباشرة في بلاد الارز. وفي رحلته الشهيرة الى مصر التقى الرئيس أنور السادات، وقابل وزير الخارجية عبد العزيز بو تفليقة في الجزائر، أملاً في الاستعاضة عن القوات السورية بقوات من الجيش المصري والجزائري وطلب مؤازرة قواة حفظ سلامٍ اوروبية منعاً لأي تعسف قد يصدر عن الجيوش العربية، لكنه عاد خائباً، بعدما اتخذت قوات الردع العربية قراراً في مؤتمر قمة بغداد، بدخول الجيش السوري.
"لسوء الحظ، اغتالوه بعد أسبوعين من دخولهم الى لبنان. ووليد جنبلاط يعلم ان من أمر باغتيال والده هو رفعت الاسد شخصياً ومن نفّذ العملية عنصران من سرايا الدفاع (على حيدر) او (علي احمد)"، يقول منصور بنبرةٍ واثقة. وينقل عن رواة ان وليد جنبلاط كان قد التقى رفعت الأسد شخصياً في سوريا، وسأله الأخير سؤالاً ماكراً: "هل تعلم من قتل كمال جنبلاط؟". فأجابه وليد: "أنت".
الوطنية
"أراد السوريون معاملته بفوقية ولكنه لم يقبل الهيمنة ولا السطوة. كان يبحث عن معاملةٍ ندية، واستدرك الموقف وتصرف بكرامة وشجاعة وهذا ما أدى الى اغتياله". بهذه العبارات يختصر ادمون رزق، ايام كمال جنبلاط الاخيرة، هو الذي عرفه سنة 1952 عندماانطلقت المواجهة في عهد الشيخ بشارة الخوري، وكان يأتيه الى المختارة برفقة شبابٍ من جزين ويجتمعون في المختارة ويلتقون الرئيس كميل شمعون. "في عينيه كنت أجد لبنانياً اصيلاً يؤمن بالثوابت اللبنانية ومرتكزات الميثاق الوطني والعيش المشترك، ورجلاً حضارياً ومثقفاً وتلميذ عينطورة ورجل تأملات وجدانية وحكمة"، يقول رزق الذي أتيح له ان يكون قريباً منه في مجلس النواب. كانت لديه مرارة لأنه كان "يستحق تمثيلاً سياسياً اوسع على المستوى الشخصي. وكان حجمه أكبر من حجم الطائفة، انطلاقاً من الزعامة الوطنية التي يمثلها"، يردف رزق.
عندما استشهد كمال جنبلاط، تغيّرت حياة أصدقائه ومحبيه. يوم الاغتيال كان منصور يحاضر في الجامعة اللبنانية، كلية العلوم الاجتماعية. فدخل أحد الاساتذة الى القاعة وصعقه بالنبأ المشؤوم الساعة الثالثة بعد الظهر: "اغتالوا كمال جنبلاط". اغلق منصور الكتاب، وقال لطلابه: "اغتالوا كمال، هذا الدرس الأخير الذي اعطيه". وفعلاً، كان ذلك الدرس الاخير الذي أعطاه منصور، والدرس الأخير الذي رسخ في ذهنه.
تعليقات: