سلافة حجازي - سوريا
تنمو الجريمة المنظّمة في سوريا كنمطٍ من العمل الهجين بين العنف والكسب غير المشروع، بالتوازي مع تحوّل السلطة المركزيّة للنظام إلى أنساقٍ من الهيمنة ذات المظاهر المسلّحة على أماكن نفوذها. يصير وقوع الجريمة مع مرور الوقت حدثاً مألوفاً، ويصير تكرارها أشبه بالحتميّة الموضوعيّة التي لا تسترعي انتباه الوعي الاجتماعي بالدرجة الكافيّة. يتحدث السوريون عن الجرائم في مناطق عيشهم حديث الشهود البعيدين، يلعنون الجاني ومن يقف وراءه، ويتعاطفون مع الضحيّة وذويّها، وأحاديثهم تلك عبارٍة عن سرديات مختصرة لواقعٍ تجاوزت محدداته العامة فكرة القانون الوضعي وقدرة السلطة على تطبيقه ضمن شروط الحرب الطويلة التي أعادت تحديد أولويات عمل تلك السلطة.
الاختطاف، الجريمة الأكثر شيوعاً
جرائم الاختطاف في سوريا هي الأكثر انتشاراً ورواجاً من بين باقي أصناف الجرائم المنظمة التي تديرها شبكات محلّية. وهي الأقدم لجهة تشكّل مكوناتها وحضورها داخل بنية المجتمع السوري خلال السنوات الماضية، وكذلك داخل وعيه الجمعيّ، كما أنها العلامة الأولى من علامات فقدان الأمان في المناطق التي لم تلتحق على نحوٍ واسع بحراك آذار / مارس عام 2011. وكانت موجّهة في بداية تشكّلها إلى النخب الماليّة، فكانت تخطف بعض رجال الأعمال
مقالات ذات صلة:
اغتصاب الأطفال السوريين: جريمة الحرب المسكوت عنها
"التعفيش" في الحرب السورية
والأثرياء أو ذويّهم القادرين على دفع الفديّة، ثم تَمدّد نشاطها واتسعت مكوّناتها إلى خارج دمشق بعد العام 2012، من دون أن يكون لها مركز واضح، أو إدارة محددة، فصارت مع مرور الوقت أقرب إلى أعمال البلطجة المناطقيّة المنظّمة، التي لم تلقَ مجابهة من أجهزة الدولة الأمنية في المناطق الخاضعة لسلطة النظام، بحيث ازدهر نشاطها بعد العام 2013، ولم تعد موجّهة نحو الأثرياء وذويّهم، بل بات ضحاياها من عامّة الناس، يجمعون الفديّة المطلوبة من خلال بيع ممتلكاتهم الشخصيّة، أو عن طريق تطبيق التكافل الاجتماعي بين أفراد العائلة المنكوبة لتأمين المبلغ المطلوب.
ومع انتشار اقتناء السلاح، وتشكيل العديد من الميلشيات المحليّة المسلّحة تحت مسمّيات عديدة، ظهر الاختطاف المضاد خلال العامين الماضيين، لتجنّب دفع الفدية، خاصةً في المنطقة الجنوبيّة من سوريا. هناك تقبع الخطوط الفاصلة ما بين مناطق سيطرة قوات الجيش النظامي ومناطق سيطرة المعارضة المسلّحة، تحت مظلّة ثقيلة من الخمول والعطالة الحربيّة، ويصير السلاح هو الترجمة الجديدة للقانون، وهو الشرعيّة أيضاً في غياب شرعيّة الدولة، فيتفاهم الخاطفون المسلّحون على تبادل المختطَفين من الجانبين، بحيث لا يدفع أحد من الطرفين فديةً للآخر. وهذه تصل قيمتها بصورةٍ وسطيّة إلى حوالي 10 آلاف دولار، من دون أن يقيم مدبّرو جرائم الاختطاف تلك وزناً للقانون رقم 21 الصادر عام 2012 بما نصّ عليه من معاقبة جرائم الاختطاف مقابل طلب الفدية الماليّة بالأشغال الشاقة. وتحصي وزارة الداخلية في سوريا نحو 7161 جريمة اختطاف وقعت بين العام 2012 والعام 2016، وتذكر بأن معظمها حدث خلال عام 2013 حيث جرى تسجيل قرابة 2470 جريمة اختطاف.
الحرب الطويلة وزمن المخدّرات
فكّكت الحرب الطويلة مكونات الصورة النمطية السائدة عن الدولة الأمنية القويّة في سوريا، ولم يعد القانون هو المرجعيّة المجتمعيّة في فضّ حالات الخصومة والتنازع على الحقوق، إذ أنّ سهولة وصول السلاح إلى أيدي الناس جعل بوصلة وعيهم الاجتماعي تنقاد أكثر إلى جدوى هيمنة الجماعات المحلّية المسلّحة على تفاصيل الحياة، في وقتٍ انحسر فيه مدّ الدولة البوليسي المرعب وانكفأ إلى مجرّد حواجز عسكرية وأمنية يمكن تفاديها غالباً. وهذا كله أعاد تشكيل واقع الحياة على نحوٍ يسمح بانتشار الجريمة المنظّمة على جغرافيا واسعة وإن كانت تحت سيطرة النظام القائم.
استطاعت الحرب أن تستدرج العنف والهيمنة المسلّحة إلى مسار الجريمة المنظّمة، وهذه التوأمة أنتجت عنّفاً مسلّحاً متّسعاً يقوم على بنية معقّدة من العلاقات ضمنت له النفوذ وعدم المحاسبة القانونيّة
ولعلّ ارتفاع رصيد جرائم تهريب المخدّرات وترويجها خلال العامين الماضيين مثال على ذلك، حيث تشير الأرقام الرسميّة الصادرة عن إدارة مكافحة المخدّرات إلى تسجيل أكثر من أربع آلاف قضية خلال العام 2015 وحده، تجاوز عدد المتهمين فيها 5200 متهم، وهذا الرقم غير مسبوق في مثل هذا النوع من الجرائم. بالإضافة إلى ذلك/ضبطت أكثر من 255 شبكة تتاجر بالمخدرات وتروّج لها في العاصمة دمشق وفي غيرها من المدن السوريّة التي لم تخرج عن سيطرة السلطة الرسميّة. وهذا لا يكشف فقط مقدار الترابط العضوي بين تشعّب مسارات الحرب السوريّة واتساع مساحة الجريمة المنظّمة، بمقدار ما يكشف عن التبدّلات العميقة التي أصابت النمط العام لحياة الناس فصاروا أكثر قابلية للبحث عن المسكّنات المخدّرة التي تُبعد وعيهم عن جلافة الظرف الموضوعي القاتم، وهم ينغمسون أكثر في مكوّناته الرثّة، من انتشار الفقر والبطالة وفقدان الأمان الشخصي وانعدام الثقة بأيّ انفراج محتمل. ولا توجد أيّ أرقام تقديرية تكشف عن توزّع تعاطي المخدّرات بين الفئات العمريّة في سوريا، لكن أحاديث الناس توثّق انتشاره على نحوٍ ملحوظ بين أوساط المراهقين خلال العامين الماضيين وفي جميع المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري.
عناوين جديدة للجريمة والحرب
التقرير السنوي لمؤشر الجريمة العالمي الذي صدر أواخر العام الماضي، صنّف سوريا في المرتبة الخامسة ضمن دول الشرق الأوسط، وفي المرتبة 31 عالمياً لجهة انتشار جرائم القتل والسطو والسرقة والاغتصاب. ومفهوم الجريمة المنظّمة بحسب تعريف الإنتربول عام 1988 مرتبط بكل جماعة ترتكب بحكم تشكيلها أفعالاً غير مشروعة بصورة مستمرة، بهدف تحقيق الربح، وقد تتجاوز أنشطتها الحدود الوطنية. كما وعرّفتها مجموعة مكافحة المخدرات والجريمة المنظمّة في الاتحاد الأوروبي عام 1993 بأنها كلّ جماعة تضم أكثر من شخصين وتمارس نشاطاً إجرامياً جسيماً لمدة طويلة أو لمدة غير محددة، ويكون لكل عضو فيها مهمة محددة في إطار التنظيم الإجرامي، وذلك بهدف بسط سطوتها أو لتحقيق الأرباح، وتستخدم أثناء ارتكابها لجرائمها العنف والتهديد والتأثير على الأوساط السياسية والإعلامية والاقتصادية والهيئات القضائية.
تعويم العنف المسلّح والجريمة المنظّمة على هذا النحو يجعل المجتمع السوريّ مهزوماً من خوفٍ يحاصر يقينه على الدوام، ويجعله أيضاً رهينةَ أزمةٍ وجودية شأنه في ذلك شأن السلطة القائمة
وفي سوريا استطاعت الحرب أن تستدرج العنف والهيمنة المسلّحة إلى مسار الجريمة المنظّمة، وهذه التوأمة أنتجت عنّفاً مسلّحاً متّسعاً يقوم على بنية معقّدة من العلاقات ضمنت له النفوذ وعدم المحاسبة القانونيّة، بحيث لم يعد مستهجناً رؤية جثّة ملقاة في ساعات الصباح الباكر على أحد أطراف المدينة، أو إلى جوار طريقٍ سريع يصل بين مدينتين. وبين العامين 2012 و2016 تم ارتكاب أكثر من 12 ألف جريمة قتل، وفي العام 2013 لوحده تمّ تسجيل قرابة أربعة آلاف جريمة قتل. وارتفع عدد جرائم السرقة ليبلغ قرابة 45 ألف جريمة وقعت كلّها ما بين العام 2012 والعام 2016 بحسب الأرقام الرسمية.
يصعب تعليق هذه الأرقام على شمّاعة الحرب وأولويّاتها، من دون البحث عن أسبابٍ أخرى لصمت السلطة حيالها، وجميعها تقع داخل مناطق سيطرتها، إذ أنّ تعويم العنف المسلّح والجريمة المنظّمة على هذا النحو يجعل المجتمع السوريّ مهزوماً من خوفٍ يحاصر يقينه على الدوام، ويجعله أيضاً رهينةَ أزمةٍ وجودية شأنه في ذلك شأن السلطة القائمة.
* صحافي من سوريا
تعليقات: