فيما يكثر الحديث عن كيفية تطبيق القرارات الدولية التي صدرت أخيراً بشأن لبنان، وبالأخص عن المحكمة الدولية وإقرارها باتفاق جميع المؤسسات المعنية في الدولة اللبنانية، أم بقرار منفرد من مجلس الأمن الدولي، وفق الفصل السابع، نتوقف عند مسألة مبدأ، أو حق ما سمي "التدخل الإنساني" وسيادة الدول.
من الآثار التي ترتبت على انهيار المعسكر الشرقي، وانتهاء الحرب الباردة، وسقوط نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، أي النظام الثنائي القطبية، تحقيق المعسكر الغربي نصراً بلا حرب، فغدت بلدان هذا المعسكر بقيادة الولايات المتحدة تهيمن على نظام ما بعد الحرب الباردة وتسعى لنشر نظامها بمكوناته الاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية، داخل بلدان العالم النامية بما فيها دول المعسكر الاشتراكي السابق.
وفي فترة ما بعد الانهيار السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، ازدادت حدة الصراع في أقاليم العالم المختلفة، واندلاع عشرات الحروب الأهلية الداخلية، وأيضاً بين دول إقليمية، على نحو أوقع أعداداً كبيرة من الضحايا وتفجرت قضايا انتهاك حقوق الإنسان والتحذير من كوارث إنسانية بفعل الحروب ولا سيما في تلك المناطق التي تفجرت فيها الحروب بدوافع عرقية لغوية، أو دينية وقومية والتي أدت الى تفجر المخاوف من حدوث المجازر الجماعية أو "القتل على الهوية". وهنا برزت أصوات عديدة في شرق العالم وغربه، شماله وجنوبه، تطالب بضرورة التحرّك في مواجهة هذه الصراعات المتفجرة. وهناك من ذهب الى حد الدعوة لإعطاء المجتمع الحق في التدخل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان داخل الدول المستقلة حتى لو تطلب الأمر القيام بعمل عسكري ـ دولي ـ ضد دولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة، وذلك تحت مبرر "حق التدخل الإنساني". وقد جرى مد المنطق على استقامته بعد ذلك فخرج من يدعو الى ضرورة تعديل المفهوم "التقليدي" "لسيادة الدولة" كي يسمح للمجتمع الدولي بالقيام بكل ما هو ضروري لحماية الإنسان من بطش نظم الحكم الاستبدادية.
ولقد تحددت شروط تطبيق "حق التدخل الإنساني" بأن تكون الدولة التي يمكن لمجلس الأمن أن يتدخل فيها، قد وصلت الى حالة من "السقوط" (أي ما يُعرف بظاهرة Failed States)) مما يستدعي تدخلاً خارجياً يسعى الى دعم وإعادة بناء هذه الدولة على أساس مكافحة الفساد والإصلاح الديموقراطي وغيرها من الشعارات. وقد يكون السبب المعلن هو وجود دولة ما في حالة انتهاكات جسيمة ترتكب ضد حقوق الإنسان الأساسية بما فيها الحق في الحياة، وأن هذه الجرائم قد ترتكب من جانب سلطة الدولة على نطاق واسع، بما يهدد حق جماعة معينة داخلها في الحياة. وقد تصل تلك الانتهاكات الى مستوى جرائم الإبادة الجماعية أو جرائم التطهير العرقي أو الجرائم ضد الإنسانية.
فعلى الرغم من التطور الذي شهده ميدان حقوق الإنسان في العقد الأخير من القرن العشرين وحتى أيامنا، وعلى الرغم من الآمال الواسعة التي راهن عليها المشتغلون في هذا الميدان، وفي القانون الدولي بصياغة عامة، فإن إحباطاً واسعاً أصاب هذا الرهان نتيجة طغيان "السياسي" على "الإنساني" في مجال التطبيق. وغدت "الانتقائية" هي سمة التعامل مع قضايا حقوق الإنسان من جانب القوى الكبرى. ومن ثم غدا التحرّك والعمل مرهونين بإرادة الدول الكبرى، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية، تلك الإرادة التي تتحدد وفق اتجاهات المصلحة بمعناها المباشر وغير المباشر. فقد تقع انتهاكات شديدة لحقوق الإنسان، وقد ترتكب من الجرائم ما يضع القائم بها تحت طائلة المحاكمة بارتكاب جرائم حرب، وتقضي مصلحة القوى الكبرى طمس الحقائق وعدم مناقشتها أو إثارتها لتورط حلفاء لها بتلك الجرائم، أو لعدم الرغبة في محاكمة أفراد تكون مقدمة لمحاكمة نظام ما حليف لها أو يخدم سياستها في منطقته.
ومن الأمثلة على تطبيق "حق التدخل الإنساني" بطريقة "انتقائية" أو دون موافقة مجلس الأمن الدولي، حالة كوسوفو حيث تم التدخل فيها ولم يتم في حالة رواندا وبوروندي برغم ما وقع فيهما من جرائم بشعة ضد الإنسانية وفي سياسات للتطهير العرقي. وجانب آخر من المشكلة يتمثل في أن الحالات التي طبق فيها التدخل الإنساني، تم التدخل أولاً بدون قرار مجلس الأمن بواسطة الناتو في حالة كوسوفو، ثم بعد أن نجحت العملية العسكرية طُلب من مجلس الأمن أن يستصدر قراراً لتأييد نتائجها ففعل. كما أن التدخل الأميركي في العراق تم أيضاً بدون قرار من مجلس الأمن، وذلك يعني أنه ليس هناك بعد إطار قانوني دولي مستقر لتنظيم عمليات وحالات التدخل الإنساني.
مع ظاهرة العولمة، وخصوصاً بوجهيها الاقتصادي والسياسي، أصبحت سيادة دول العالم الثالث في مهب رياح الدول صانعة العولمة والشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات المالية العالمية. فحل تدويل الانتاج محل قومية الانتاج. والقرارات السياسية السيادية لم تعد متعلقة بالسلطة القومية وحدها بل أيضاً بالفاعلين الاقليميين والدوليين. وحتى مسألة الأمن الوطني والقومي دخلت ضمن منظومة الأمن العالمي. وفيما أعطيت مكافحة الإرهاب الأولوية المطلقة على الأجندة الدولية، وأصبحت تلك المكافحة تقتصر على البعد العسكري والأمني وتغفل الأبعاد الأخرى، يخشى أن تتذرع الدول الكبرى بهذه الذريعة لتحقق مآربها ومصالحها السياسية والاقتصادية.
صحيح أن تطبيق حقوق الإنسان هو من المستلزمات الأساسية لكل إنسان، بصفته إنساناً وأياً كان انتماؤه الوطني والقومي والاجتماعي والعرقي والديني... لكن، أليس هناك أيضاً في استقلالها وسيادتها شرط أن لا تتعارض هذه الحقوق السيادية مع حقوق الإنسان الأساسية؟
تعليقات: