بعد انقطاع طويل، وإضراب عن السفر امتدّ لأكثر من عقدين من السنين ليس بعيداً عنه تفادي الطائرات وحوادثها وعدم القدرة على تمويل السفر والإقامة في الخارج، لفترة ولو كانت قصيرة، كحاجة وضرورة لتشريج يطال حياتنا التعبة كما نفعل مع أجهزتنا الخلويّة والألكترونيّة...
كانت الرحلة من خلال وفد كبير من الجامعة اللبنانيّة، أساتذة وطلاباً، ضمن برنامج علميّ ثقافيّ للتعرّف عن كثب على بلد عصر النهضة وتماثيلها ومنحوتاتها وجداريّاتها وهندستها التي يعجز الحاسوب الإلكتروني عن إحصائها لكثرتها، ناهيك من رغبة خاصّة بسماع لغة أهل إيطاليا المغناة.. برونتو، تشاو، بلليسما، بونجورنو، كوم ستاي، كوانتو كوستا... ولتذوّق البيتزا والسباغيتي من مصدرها.
لم تكن المرّة الأولى التي أزور بها إيطاليا، فالمرّة السابقة كانت بداية التسعينيّات والتي دامت ما يُقارب الشهر، آتياً من باريس أثناء دراستي وإقامتي بها، وقد ذكرتُ تلك الزيارة في كتابي "غرنيكا الخيام..."، إطلعتُ خلالها على أمكنة كثيرة قاسمها المشترك روائع عصر النهضة الإيطاليّة، ولا سيّما روائع مثلثها الذهبيّ (دافنشي، أنجلو، رفاييل)، وما قبلهما وما بعدهما من تيّارات ومدارس فنيّة كالتريشنتو والمانيريزم والباروك والروكوكو...
في اللحظة التني دخلتُ فيها الطائرة في مطار بيروت أحسستُ أني أترك كلّ متاعبي ووجودي وكياني قاذفاً بها من شباك الطائرة إلى كومة القمامة المتراكمة في شوارعنا. أحسستُ برغبة في الصراخ الافتراضيّ إلى الخارج بأعلى صوتي آآآآآآآآآخ، أين منها صرخة الفنان التعبيريّ "إدغار مونش" في عمله الشهير "الصرخة". لا أعرف لماذا أحسستُ بولادة جديدة تنبعث من مقعد الطائرة حيث أجلس. لم أعد أهتمّ بشكل الطائرة البلطيقيّة العتيقة التي أقلتنا إلى إيطاليا، والتي أكل الدهر عليها وشرب، والتي قِيل عنها الكثير من خلال تعليقات الزملاء المسافرين ضمن المجموعة.
فينيسيا:
وصلنا بسلام إلى إيطاليا. هبطنا في مطار فينيسيا "البندقية"، يا لهذا الإسم العسكريّ! لطالما حلمنا بزيارة تلك المدينة الغارقة في أحضان المياه مستحمّة دون غرق أو بلل والتي أظهرتها إحدى الإعلانات التلفزيونيّة مؤخراً "La vita e bella" تجعل المشاهد يطير ليسبح مع موجودات الإعلان في أحضان المدينة العائمة..
كان علينا زيارة المدينة على عجل عبر الركض المتواصل في شوارعها للعودة إلى مكان التجمّع المتفق عليه قبل التفرّق وإلا الضياع والالتحاق بالمجموعة فيما بعد في مكان آخر من ميلانو المحطة الثانية في زيارتنا على مسؤوليّة الفرد الشخصيّة، فكانت عيوننا شاخصة دائماً باتجاه العلم اللبناني المرفوع على قضيب رفيع متوسّط الطول ليراه الجميع، وكما تفعل باقي التجمّعات الأجنبيّة الموجودة في الساحات والأمكنة ضمن هذا البحر البشريّ من السائحين من مختلف الجنسيّات والألوان. تعرّفنا في فينيسيا على زواريبها الصغيرة المقتظة بالزائرين وروّاد المطاعم والمقاهي ومحلات بيع المنتوجات الإيطالية من ثياب وأحذية وأشياء كثيرة للذكرى. زرنا كنيستها المزيّنة حوائطها وأرضيّتها بالفسيفساء في مرحلة ما قبل النهضة، من بيزنطيّة ورومانيّة وغوطيّة، وغناها بالتماثيل التي تمثل رجال الدين يأتي على رأسهم القديس "سان بيير" أوّل بابا عرفته إيطاليا والعالم. تناولنا فيما بعد، وعلى عجل، غداء سريعاً شهيّاً في أحد مطاعم الأزقة الضيّقة مع استعمال بعض الكلمات الإيطاليّة التي حفظناها غيباً في لبنان قبل توجّهنا إلى إيطاليا، يُضاف إليها بعض من الانكليزيّة والفرنسيّة حيث لاحظنا أنّ الثانية لا يجيدها الإيطاليون، إلا القلة القليلة منهم، على عكس الأنكليزية، لغة البيزنس، التي يمكن أن تتفاهم بها مع الإيطاليين دون مشكلة.. مع استثناءات طبعاً.
ميلانو:
توجّهنا نحو "ميلانو"، محطتنا الثانية، لمشاهدة الحدث العالميّ الذي يحصل مرّة واحدة كل خمس سنوات، وأعني به "إكسبو ميلان" الذي حجزنا تذاكر دخول إليه عبر الأنترنت قبل مغادرتنا لبنان. تشارك في هذا المعرض الدوليّ معظم دول العالم التي تتبارى في عرض منتوجاتها وهندستها وفنها البنائيّ الذي يتفاوت أهميّة وجمالاً تبعاً للدول المشاركة وما تنتجه عبقريّتها وخيالها من إبداع فنيّ. لا نبالغ إذا قلنا أنّ الركن اللبنانيّ كان الأضعف حضوراً باستثناء عبقريّة التبولة والحمّص والفلافل التي كانت الأكثر حضوراً.
ما أثار دهشتنا وإعجابنا أكثر من أي شيء آخر في المعرض هو السيرك الإيطالي الذي أبدع به قائموه أيما إبداع، فكان منوّعاً أخاذاً بكل المعايير والحركات المرفقة بغناها وتنوّعها وإضاءاتها ومهرّجيها الذين تجوّلوا بين الحضور ليشاركوهم لعبة المسرح ضمن هرج ومرج متواصلين.
في اليوم الثالث كانت زيارتنا لمنطقة تُسمّى الأراضي الخمسة "شينكوي تيرّي"، اقتصرت الزيارة على رؤية ركن صغير جداً من هذه الأراضي وهو ركن إمتاز بجماله الطبيعيّ والجغرافيّ على شاطىء البحر ولون شاطئه الذي تميل حصاه إلى الرماديّ. حينها أخذت السماء تلقي بمخزونها من الأمطار، صدّقنا حينها ما قِيل لنا أنّ الطقس في إيطاليا متقلب جداً يميل إلى الصحو ثم الأمطار بشكل مفاجىء! إلا أنّ هذا الطقس لم يمنع روّاد السباحة من التمتّع بعذوبة المياه، الذين اعتادوا على ما أظنّ على مزاجيّة السماء في هذا الركن من العالم.
المحطة التالية كانت زيارة برج "بيزا" الشهير المائل الذي تحس عند رؤيتك له أنه سيسقط على المتفرجين الكثر الذين يتحلقون حوله لأخذ الصور، أو كأنه يقوم بتحيّتهم عبر إنحناءة احترام منه للجموع المحتشدة التي أجرت بعض السيناريوهات أو الخدع البصريّة عبر التقاط الصور مع البرج أو بمحاذاته محاولين منعه من السقوط عبر تشكيل اليدين عن بعد بوضعية الداعم له، كما فعل كاتب هذه الكلمات ناشراً الصور على صفحة التواصل الاجتماعيّ.
فلورنسا:
وصلنا في اليوم الرابع إلى فلورنسا المدينة التي أنجبت كبار فناني عصر النهضة والتي أحببناها أكثر من أي مدينة أخرى، كميلانو مثلاً، بالرّغم من أهميّتها كعاصمة اقتصاديّة لإيطاليا. كان لنا في فلورنسا أكثر من لقاء مع عائلة "ميدتشي" التي حكمت حينها، وكانت راعية للفن وللفنانين، والتي عرفت فلورنسا على يد هذه العائلة عظمتها الفنيّة. زرنا بعض الأمكنة التي كانت مقرّاً لهم، والجسر الذي كان ممرّاً خاصّاً للعائلة، والجسر الآخر المحاذي له الذي كان ممرّاً لهم في المناسبات العامّة. زرنا الأمكنة التي عاش فيها "ميكال أنجلو" ودرس الفن صغيراً، والشارع الصغير الذي وُلد فيه الفنان "بوتيشيللي" صاحب لوحتي "ولادة فينوس" و"الربيع" الموجودتين في مُتحف "الأوفيس" في فلورنسا. تحسّ وأنت تزور تلك الأمكنة أنك تحيا اللحظات التي عاشها هؤلاء، تحسّ أنهم يتحرّكون إلى جانبك ويمارسون فنهم دون اهتمام بالحاضرين. هم فنانون أزليّون لا يتوقفون عن الرسم والإبداع. يا لها من لحظات رهيبة مقدّسة يعيشها الزائر إلى تلك الأمكنة! تزخر المدينة بجنائنها وهندستها وتماثيلها الموزعة أنى حطّت عيناك. هنا يقف البرج الذي بناه " جيوتو" مبشّر عصر النهضة، والذي قال عنه "دانتي" أنه الرسام أو المصوّر الأكثر شهرة في عصره. وهناك حديقة "بوبولي" وكنيسة "سانتو سبيرتو" و"سانتا ماريا نوفولا"... محطتنا الرئيسة كانت كنيسة "سان فرانسوا أسيز" التي أبدع بها "جيوتو" أعماله الفريسك بداية القرن الرابع عشر (شنكوي شنتو) التي حضنتها كتب تاريخ الفن، فرأينا عن كثب تقنيّته وألوانه وقصصه ومحاولاته التجديديّة في رسم الأمكنة عبر المنظور الثلاثي الأبعاد. رأينا في الطابق الأرضي لوحات الفريسك الثمانية والعشرين التي تمثل إيقونوغرافيا القدّيس المذكور. أعمال لا تقلّ روعة عن أعمال الفنان "ميكال أنجلو" في كنيسة "السيستينا" في الفاتيكان في روما. أمّا في الطابق العلويّ، فجاءت الأعمال أيضاً امتداداً لأخواتها في الطابق السفلي، وقد يظنّ المرء أنّ منفذها هو الفنان "جيوتو" نفسه لتقارب الأسلوبين، لنعلم من خلال الدليل أنّ مجموعة من الفنانين المعاصرين لجيوتو قاموا برسم هذه الجداريات بتاثير من أسلوب هذا الفنان الكبير.
من الأمكنة التي لا يُمكن نسيانها في منطقة فلورنسا، بازليك "سان فرانسوا داسيزي" وفيلا "ديستي" وحديقة "تيفولي" الأجمل الأخاذة بنافورتها وبركها وأشجارها وورودها وهندسة حدائقها... مكان أشبه بالجنة في الكتب السماويّة.
كم أحببنا هذه المدينة كمكان هادىء للاستقرار فيه إلى الأبد.
روما:
المحطة التالية كانت العاصمة روما. كان علينا التواجد صباحاً باكراً أمام الفاتيكان للتجمّع والدخول لمشاهدة الفاتيكان ورائعة التاريخ "خلق العالم" لميكال أنجلو. كان يصحبنا دليل يشرح لنا كل تفاصيل الأمكنة والأعمال وظروف نشأتها وتاريخها. عند ذكره للفاتيكان تساءل بطريقة لا تخلو من الاستنكار حول دولة الفاتيكان المستقلة الموجودة داخل روما! لا يُمكنه إستيعاب وقبول كيفيّة وفكرة وجود هذه الدولة المستقلة في قلب روما يسكنها تسعمئة راهب فقط، هم عدد سكانها! هو أمر فعلاً يدعو للاستغراب والذهول.
غصّ الفاتيكان بالزائرين المتوجّه معظمهم إلى كنيسة "السيستينا" حيث يرقد تعب الفنان المذكور. بصعوبة، تشق طريقك للوصول إلى القاعة التي تبهرك عند وصولك إليها، وتحسّ أنك تعيش في عالم آخر، عالم مليء بالقدسيّة والجمال والسحر. تحسّ بخشوع أمام عظمة هذا الإبداع الفرديّ المؤمن بالفن طريقاً للخلود والعطاء والطهارة. هذا العمل جاء صنيعة إنسان واحد فرد عبقريّ اسمه "ميكال أنجلو"، هذا العمل بمقياس هذه الأيام يحتاج إلى فريق عمل كبير من الفنانين المهرة لتنفيذه بتلك الروعة والإجادة، وقد لا يأتون بمثله. يبلغ طول القاعة حوالي الأربعين متراً، وعرضها يُقارب الأربعة عشر متراً، وارتفاعها الواحد وعشرين متراً، بمساحة إجماليّة تصل إلى ثلاثة آلاف وخمسمئة متراً مربّعاً (3500م)2. امتلأت مساحته، باستثناء الأرضيّة، ألواناً وقصصاً تحكي خلق الأرض والنور وآدم والطرد من الجنة والطوفان والحساب الأخير، رسم فيها "ميكال أنجلو" ثلاثمئة شخصيّة... الحديث عن هذا العمل يطول، لذلك سنترك المكان للسائحين الآخرين وللأمكنة الأخرى التي لها الحق أيضاً في الحديث. الممرّات المؤدّية إلى السيستينا تعجّ بالأعمال المنوّعة من الفريسك والموزاييك والكانفا تحاكي قصصاً دينيّة وقديسين وزخرفة في السقوف تناول على تنفيذها مجموعة كبيرة من الفنانين المعروفين، من بينهم بوتيشيللي، الذين طلب منهم بابا روما حينها القيام بهذا العمل وزخرفة القصر ومداخله الذي انتهى بناؤه عام 1384م قبل أن يُطلب من "ميكال أنجلو" التفرّغ لخلق العالم... بل خلق الفنّ.
قبل الدخول إلى "السيستينا" توقفنا عند أعمال كثيرة ومنحوتات منها "بييتا" لميكال أنجلو حيث جلست العذراء حاملة بين يديها وعلى ركبتيها جسد ابنها المسيح بعد الصلب. تُعدّ هذه المنحوتة إلى جانب تمثال "دافيد" و"موسى" من أشهر أعماله النحتيّة.
بعد الفاتيكان كانت لنا محطة في إحدى الكنائس التي يوجد فيها تمثال "موسى" الشهير.
من الكنيسة هبطنا باتجاه الـ "كوليسّيو"، الميدان الذي كان يستعمله الأباطرة الرومان للعروض الرياضية ومبارزة الحيوانات وتعذيب المعتقلين من خلال مطاردة الحيوانات الجائعة لهم... تغيّرت معالم الكوليسّيو كثيراً عما كانت عليه سابقاً يُظهر هذا الشيء كرّاس أو كُتيّب مخصّص للحديث عنه. ما بقي الآن ليس أكثر من أطلال تعمل الدولة الإيطالية على ترميمه كي لا ينهار بالكامل. وقد روى لي أحد الإيطاليين في زيارتي السابقة أنّ "موسوليني" قام أثناء الحرب الكونيّة وأثناء حكمه بطمر المكان المحيط بالميدان وتعبيده وتحويله إلى أوتوستراد مخفياً الكثير من الآثار تحته بهدف جعله ممرّاً لجيشه.
نابولي:
عند الانتهاء من روما غادرناها باتجاه "نابولي"، المحطّة الأخيرة من رحلتنا مروراً بجزيرة "كابري" الأخاذة ببحرها ومينائها المليئة بالمقاهي والمطاعم وعجقة السائحين والسابحين وحياتها الصاخبة الضاجّة، ولو تسنّى لنا الأمر والوقت لكنّا غطسنا في مياه نابولي مع السابحين الفرحين بهذه المياه الخالية من عفن القمامة والمجارير والنفايات كما هو في بلدنا. تناولنا هناك وجبة غداء على عجل كالعادة. من هناك توجّهنا نحو نابولي عبر يخت عبّ زرقة المياه راسماً وراءه موجاً أبيض ناتجاً عن حركته الهادئة بتماوج راقص. قامت مجموعة من طالبات المعهد بتشكل كورال جميل ليلقين بصوت خفيف ناعم يُحاكي حركة اليخت المتموّجة بعض الأغاني الفرنسية والانكليزيّة وسط اهتمام الحضور الذي غصّ به قلب اليخت الكبير من جنسيّات مختلفة.
نابولي مدينة "المافيا"، تختلف عن باقي المدن الإيطاليّة بفوضاها وعبثها وفقرها البادي للعيان في واجهات أبنيّتها وشوارعها... تمتلىء نابولي، كما باقي مدن إيطاليا، بالجاليات الأجنبيّة، ولا سيّما الآسيويّة منها والأفريقيّة، ومنهم من يقيم بشكل غير شرعيّ!
زرنا المدينة التاريخيّة "بومباي" التي هدمها الزلزال "فيزوف" في الجبل المحاذي لها، الذي حوّلها إلى أطلال بسكانها وحيواناتها وأشيائها، شاهدنا بعضاً من آثار هذا الحدث كالولد المتحجّر والكلب المنقبض على نفسه وأدوات الفخار والأواني المستخرجة من تحت الأنقاض والمعروضة ليتبيّنها الزائرون، وكان يرافقنا دائماً دليل يشرح لنا ويُفسّر الأحداث.
يُمكن اختصار إيطاليا بأنها مدينة أطلال تاريخيّة أشبه بقلعة بعلبك التي بناها الرومان في بلادنا. تحسّ أنّ عصر النهضة بأناسه ما زال حيّاً لكنه يتحرّك على وقع ما أحدثته التقنيات المعاصرة من وسائل اتصال إلكترونيّة محمولة وثابتة.
في اليوم الثامن غادرنا نابولي مُنهكين باتجاه بيروت، تاركين وراءنا ذكريات جميلة وانقطاعاً عن زمن لبناننا ومشاكله بمثابة حلم في ليلة صيف حارّ.
بعد هذه الاستراحة في الخارج، هل يُمكننا دائماً تكرار عبارة "الحق على الطليان"؟...
أحببتُ كثيراً إيطاليا، البلد الدافىء، الحنون والمجنون...
"أرّيفيدتشي" إيطاليا.
أ. د.يوسف غزاوي
تمثال موسى لمايكل أنجلو_1
مدينة بومباي المهدّمة
معرض ميلانو
تمثال داود لميكال أنجلو
مدخل السكستينا
تعليقات: