من سيودّع البلد أولاً: السياسيون أم المواطن؟
أين تعثرت؟
في متابعة المواقف المتقابلة بين فريقي النزاع، تبدو الصورة أقرب إلى كاريكاتور سمج. والاتهامات بشأن التبعية لهذا الفريق الخارجي أو ذاك، لا تفيد في إخفاء ما يعرفه اللبنانيون، من المواطنين قبل السياسيين، عن أن الأزمة موجودة منذ اليوم الأول في الخارج. ورغم أن ميزان القوى الخارجي لم ينطبق تماماً على ميزان القوى الداخلي كما حسب الأميركيون، فإن النقاش الذي بدأه الفرنسيون مع سوريا كان لا بد من أن يصل إلى مرحلة القرار. وفي هذه الحالة، يظل الفرنسي من يتولى التفاوض، ولكن على الأميركي أن يدفع الثمن. ويبدو مما ظهر في الآونة الأخيرة أن واشنطن وجدت نفسها غير مضطرة لتكديس الخسائر دفعة واحدة، وفضّلت أن تتأخر في دفع ما يستحق عليها في لبنان إلى وقت آخر، علماً بأن الفرنسيين وبعض اللبنانيين مثل وليد جنبلاط قالوا لمن يهمه الأمر: لنخرج من المعركة الآن وبحصر الخسائر، بدل أن نضطر إلى دفع الثمن مضاعفاً بعد وقت ليس ببعيد.
منذ عودة النائب سعد الحريري الأخيرة من السعودية، بدا أنه أكثر تصلّباً. ربط كثيرون موقفه بالنقاش حول ملف الحكومة وسلة التفاهم مع المعارضة، لكنه كان يبحث عن أمرين: الأول له صلة بمستقبله السياسي لناحية تولّي مهمة رئاسة الحكومة، حيث وجد أن المناخ لا يساعده، رغم النفي اللافت الصادر عن السفارة السعودية في بيروت، والأمر الآخر شعوره وتلقّيه معلومات عن أن مسار التحقيق الدولي والمحكمة الدولية سوف يكونان الأكثر تأثراً بأية تسوية سياسية تحصل مع سوريا. وبالتالي فإن كل الجهد الاستخباري والسياسي الذي عمل عليه منذ نحو ثلاث سنوات سوف يضيع في وقت قصير، وإن في العالم من فتح الحديث مع دمشق عن الأمر من زاوية التأكيد لها أن أحداً لن يخترع مواد أو أدلة تهدف إلى توريطها في الأمر، علماً بأن الحريري كان قد طوّر نظريته وفريقه بشأن جريمة اغتيال والده الراحل رفيق الحريري، من القول إنها جريمة من تأليف المخابرات السورية وإخراجها وتنفيذها إلى القول إن التأليف والإشراف كانا لسوريا والتنفيذ والإخراج لمجموعات إسلامية متشددة غير بعيدة عن تنظيم «القاعدة».
وبحسب متابعين، فإن التسوية التي كانت مركّبة من ثلاث قواعد، كانت تأخذ في الاعتبار عدم تحطيم قوى الأكثرية في لبنان حتى لا ترثها قوى أكثر تطرفاً، وقيل كلام واضح في هذا المجال عن خشية أن يرث السلفيون تيار المستقبل وأن تعاود القوات اللبنانية صلاتها القديمة بإسرائيل، وأن يتورط وليد جنبلاط وأنصاره في تحالفات من النوع الذي يحوّلهم إلى أدوات تفجيرية قابلة للعزل.
أما القاعدة الثانية فكانت تهدف إلى تثبيت نتائج انتصار المقاومة في حرب تموز من عام 2006 لجهة تكريسها قوة غير قابلة للعزل أو التسريح. وبالتالي فإن الأمر يتجاوز حدود البيان الوزاري، الذي يقرّ بحقها في الدفاع عن لبنان، إلى تأكيد الحاجة إليها في مواجهة تحديات المرحلة المقبلة، مع ما يستلزمه ذلك من ترتيب الأوضاع الإدارية والأمنية في الدولة ربطاً بوجود جدّي وفاعل للمقاومة.
أما القاعدة الثالثة فهي تكريس نتائج المراجعة التي أجراها المسيحيون خلال الفترة الماضية، وجعلت من العماد ميشال عون وتياره السياسي الذي يمتد إلى مجموعات أخرى من التي كانت حليفة لسوريا أو هي على خصومة مع الكتائب ومتفرعاتها ومع المراجع التقليدية، وأن يعاد الاعتبار إلى الحضور السياسي المسيحي في الدولة دون ربط ذلك بانتفاضة تطيح اتفاق الطائف وتعديلاته.
وعليه، فإن هذه القواعد لا يمكن أن تقف من دون تغطية خارجية كاملة. وفي اللحظة التي ترفض فيها الولايات المتحدة الدخول في بازار مباشر مع سوريا، نجدها قد أوكلت إلى الأوروبيين، وتحديداً فرنسا، القيام بالمهمة، فيما فرضت على حلفائها من العرب عدم التدخل السلبي، بينما أعادت إيران ترك الأمر كلياً إلى سوريا، من دون إغفال المتغيرات التي طرأت خلال العامين الماضيين، مع إقرار سوري بأنه لا يمكن العودة بالأمور إلى ما كانت عليه سابقاً، وصولاً إلى تعهد واضح وصريح من الرئيس السوري بشار الأسد لأبرز حلفائه في لبنان بأنه أمام أية تسوية منطقية سيبادر إلى اتخاذ الخطوات التي تطمئن الجميع لناحية تكريس العلاقات الدبلوماسية وفتح سفارة سورية في بيروت يتولى أمورها رجل مدني لا عسكري حالي أو سابق، وأن يعمل على تنظيم الاتفاقات بين البلدين في إطار أكثر وضوحاً وأقل تأثراً بلعبة الهيمنة. لكن ما حصل هو أن الولايات المتحدة كانت تعتقد بأن جماعتها في بيروت يقدرون على فرض وقائع مختلفة، وهو الأمر الذي انكشف في الأيام القليلة التي سبقت موعد الرابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي، عندما أطلق جنبلاط صافرة الانطلاق في طريق العودة إلى السابق، بعدما لمس هو وجهات خارجية أن المعارضة مستعدة للذهاب إلى أبعد مما يظن الجميع لمنع استمرار فريق السلطة في إدارة البلاد منفرداً. كذلك ظهرت إشارات سلبية من قبل مؤتمر أنابوليس ومن بعده لناحية عدم وجود قدرات على فرض متغيرات في المنطقة. كذلك ظهر هزال مشروع إبعاد سوريا عن إيران. أما الطامة الكبرى فكانت على مستوى الوضع المسيحي اللبناني، حيث ظهر أنه، برغبة من رغب وباعتراض من يعترض، لم يكن في الإمكان تجاوز العماد عون أو خلق آليات جديدة لمحاصرته. فلا العزل الدولي والعربي نجح، ولا الحصار والتهم المتعددة نجحت، ولا حتى مشروع إقامة حلف بين الكنيسة والجيش لمواجهته قد أدى غرضه.
غير أن الموقف الأميركي الذي أربك الفرنسيين وجعلهم يقفون في منتصف الطريق لا يتقدمون ولا يتراجعون، يبدو أنه متصل بملف المحكمة الدولية، إذ لا يزال في الولايات المتحدة من يعتقد بأن هناك إمكاناً لاستخدام هذا الملف في وجه دمشق وإلزامها التنازل في لبنان وغيره من الجبهات، فيما يخشى الفرنسيون وبعض الجهات اللبنانية أن يتحول الملف قنبلة جرى إشعال فتيلها ولامس حد الانفجار قبل رميها في حضن الآخرين. لهذا قال جنبلاط وكرر: «أنا مثلكم لا أطيق هؤلاء ولا أريد لهم الخير والأمان، ولكن ليس باليد حيلة».
تعليقات: