عندما يتحول الصيدلي إلى تاجر في لبنان

فاتورة الدواء في لبنان هي الأعلى في المنطقة (ريشار سمور)
فاتورة الدواء في لبنان هي الأعلى في المنطقة (ريشار سمور)


تزدحم السوق اللبنانية بأدوية طبية تتجاوز بأعدادها أسواق الأدوية في أكثر من بلد، وتحوّل بذلك جانب من القطاع الإستشفائي إلى سوق خاضعة لنظرية العرض والطلب تحكمها المنافسة والمزاحمة والإغراءات والعروض، وتعبث فيها الفوضى لجهة الوصف العشوائي وغير العقلاني للدواء.

وليس الوصف العشوائي للدواء سوى "آفة" تنخر القطاع الإستشفائي. وعزز هذا الأمر التشريع اللبناني الذي اعتبر الصيدلي تاجراً، لتحوله بمهماته الإنسانية إلى أشبه بسوق للخضار قوامه الترويج والتسويق، فلا رادع ولا ضابط يحكم علاقة الصيدلي والطبيب بشركة الأدوية التي تسخى بعروضها مقابل تسويق منتجاتها من "الأدوية" دون أدنى مراعاة للآثار المادية والصحية لذلك.

وأكثر ما يشير إلى "انتفاخ" سوق الأدوية في لبنان ترتيب الفاتورة الدوائية بالمرتبة الأعلى في المنطقة. فقد سجلت أكثر من 1.8 مليار دولار خلال العام 2016. وهو المستوى الأعلى على الإطلاق. وتالياً، فإن معدّل تكاليف الأدوية سنوياً لكل مواطن لبناني يبلغ 3 أضعاف ما يتكلفه المواطن الخليجي و5 أضعاف ما يتكلفه المواطن الأردني.

وتبلغ نسبة الإنفاق الإجمالي على الصحة في لبنان أكثر من 25% في مقابل 17% فقط في غالبية دول العالم، حسبما يؤكد مدير مركز ترشيد السياسات الصحية في الجامعة الأميركية الدكتور فادي الجردلي، في حديث إلى "المدن". فمعدل الإنفاق على الدواء في لبنان هو الأعلى في المنطقة، ومرد ذلك، وفق الجردلي، إلى العديد من الأسباب، أبرزها تخمة السوق اللبنانية بأكثر من 6000 صنف دواء وشيوع الوصف العشوائي وغير العقلاني "الذي يترك آثاراً وخيمة على المستويين الصحي والمادي للمريض".

ما يسهم أكثر بترسيخ الوصف العشوائي هو علاقة الطبيب والصيدلي بشركات الأدوية وغياب الرادع للوصف اللاعقلاني الذي يبنى على تسويق الصيدلي أو الطبيب بأصناف معينة من الأدوية من دون أخرى، بصرف النظر عما إذا كانت ضرورية للحالة المرضية المقصودة أم غير ضرورية. وهو ما يؤدي إلى أكثر من ضرر على المستوى الصحي وعلى مستوى التكلفة المضاعفة.

ورغم قوننة الوصفة الطبية أخيراً بهدف ضبط عملية وصف الأدوية، إلا أنها لم تحقق أهدافها، إذ إنها تركت للطبيب حرية القرار بمنح الصيدلي صلاحية وصف أدوية الجنيريك (الجنيسية) أو منعه. من هنا، يرى الجردلي أن الحلول بضبط عملية وصف الدواء تبدأ من إضفاء صفة الإلزامية للمدونة الأخلاقية لاستخدام الدواء، على غرار الدول المتقدمة، وضبط التفاعل بين شركات الأدوية والصيادلة والأطباء وتغريم وفرض عقوبات على الشركات التي تقدم هدايا أو عروضات. والأهم من ذلك، تقوية ثقة المواطن بالأدوية البديلة أي الجنيريك (الجنيسية)، وتعزيز سياسة هذه الأدوية وتحسين جودتها.. في سبيل خفض الانفاق على الأدوية في لبنان وتصويب استخدامها.

ولعل غياب "لائحة أساس للدواء" في لبنان، بخلاف ما هو معتمد في غالبية دول العالم، يفاقم حجم الفاتورة الدوائية المترتبة على الدولة والجهات الضامنة، وكذلك على المواطن. فهذه اللائحة "أساسية"، وفق حديث الدكتور إسماعيل سكرية لـ"المدن"، الذي يوضح أن المؤسسات الضامنة تعتمدها، وتلتزم بها بمعزل عما يوجد في السوق، على أن لا يزيد عدد الأدوية في اللائحة المعتمدة عن 850، أو 900 دواء فقط.

وقد فشلت محاولات تطبيق لائحة أساس للدواء، خلال الأعوام 1992 و1996 والعام 2000، واستمر تجار الدواء بإدخال أصناف جديدة تفوق أضعاف السوق اللبنانية، حتى تجاوز حجم السوق 6000 صنف في مقابل اعتماد مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، لائحة من الأدوية لا تتجاوز 900 صنف فقط انسجاماً مع الدول المتقدمة.

ويعزو سكرية سبب عدم اعتماد لائحة أساس للدواء إلى قدرة مافيا الدواء، من "سياسيين وإداريين وتجار"، على إفشال المحاولات منذ عام 1992 حتى اليوم.

تعليقات: