دورية للجيش اللبناني في منطقة عرسال
لا يمكن المرور على العملية النوعيّة التي نفذها الجيش اللبناني في "جرود الارهاب" في منطقة عرسال، الا مع تأدية التحية الى المؤسسة العسكرية من ادنى رتبة فيها الى قيادتها. كذلك لا بد من ان تشمل التحية سائر الاجهزة الامنية التي تقدم يوميا الانجاز تلو الانجاز ونجّت بذلك لبنان من كوارث فظيعة كانت تعدّها له المجموعات الارهابية.
هذه التحية ليست من باب المجاملة، ولا هي مجرّد كلام عاطفي، بل أوجبها الجهد الاستتثنائي الذي يبذله الجيش والاجهزة الامنية في الحرب الدائمة على الارهاب ومطاردة اشباحه وخلاياه السوداء التي جعلت كل اللبنانيين ومن كل المناطق والطوائف اهدافا لهذا الارهاب البغيض، كذلك اوجبتها تلك العملية النظيفة التي نفذها الجيش قبل ايام، وتندرج في سياق المواجهة الدائمة التي لا يخوض فيها العسكريون معركة حماية حدد لبنان فحسب، ولا معركة صيانة استقراره الداخلي بنزع الصواعق الارهابية من داخل الجسم اللبناني فحسب، بل يخوضون، بكل جرأة، وإقدام، وإرادة، وعزيمة واستبسال، وباللحم الحي، معركة حماية مصير لبنان ووجوده، من ارهاب لم يسبق ان مر مثيل له في التاريخ القديم والحديث.
قيمة هذه العملية نوعيتها، وتأكيد الجيش من خلالها امساكه بزمام المبادرة، وقدرة تحكُّم استثنائية بأرض المعركة، واثباته ان المجموعات الارهابية، ومهما كثر عددها وعظم خطرها، تبقى من النوع يمكن ان يُهزَم ويُقضَى عليه.
وقيمتها ايضا، انها تأتي في اجواء "عرس القاع" التي تستذكر في هذه الايام شهداءها الذين زفّتهم عرسانا على مذبحها، قبل سنة من الان، ويستذكر لبنان معها الشهداء العسكريين الذين سقطوا جراء غدر الارهاب في عرسال في 2 آب 2014 وكذلك كل الشهداء والجرحى في كل المناطق اللبنانية الذين سقطوا بسيارات الموت المفخخات الاحزمة الناسفة في الضاحية والبقاع.
في القاع ثمانية انتحاريين غدروا بها وفجروا انفسهم بين اهلها الآمنين الذين ارتقى منهم شهداء، وبالأمس خمسة انتحاريين فجروا انفسهم خلال عملية الجيش في "جرود الارهاب". خمسة انتحاريين هذا ليس بالعدد القليل، هو عدد كبير، ودلالاته في منتهى الخطورة؛ فكم يوجد غيرهم بعد، ويعيشون بأمان وحرية واطمئنان في تلك الجرود؟ وبالتالي مع هذا العدد الكبير، الا يمكن لهذا الارهاب ان يستنسخ في اي قت "قاع ثانية" في اي منطقة لبنانية.
جميل كلام السياسيين بحق الجيش بعد هذه العملية بانّه المؤسسة الحاضة التي تشكل ضمانة لبقاء لبنان وعدم سقوطه.
وجميل الكلام عن ان الجيش استطاع خلال السنوات الاخيرة ان يوفر مظلة امان للبنانيين.
وجميلة هي الدعوات لاحاطة المؤسسة العسكرية بالالتفاف والاحتضان من قبل فئات الشعب اللبناني كلها.
وجميل الاقرار بان الاجهزة الامنية تعمل في الداخل باقصى امكانياتها وباحتراف مشهود لها، لسد الثغرات التي يمكن ان يتسلل منها الارهاب الى الجسم اللبناني.
وجميل اكثر، الاعتراف للجيش بأنه اظهر من خلال العملية النوعية في "جرود الارهاب" قدرة وتحكما وسيطرة في الميدان. وقبل كل ذلك اظهر إرادة وعزما وتصميما على الانتصار في الحرب التي يخوضها على الارهاب وهي حقيقة يشهد لها العالم كله، وينظر بعين التقدير لانجازات جيش صغير فاق في الحرب على الارهاب جيوش دول كبرى تمتلك من القدرات والامكانيات والعتاد اضعاف اضعاف ما يملكه الجيش اللبناني.
كل هذا الكلام صحيح لكنه اقل الواجب فلا جدال ابدا حول جماليته ودقة مضمونه، ولكن ماذا بعد؟ هل يكفي هذا الكلام لتحصين هذا الانجاز النوعي التي حققه الجيش في "جرود الارهاب" وكل الانجازات التي تحققت او التي ستتحقق؟ لا بل هل هو كاف لتحصين لبنان؟
الجواب البديهي هو ان "التحصين"، هو الخطوة التالية والملحة لا بل الواجبة، وتتمثل بقطع رأس الافعى الكامنة مع كل متفرعاتها في "جرود الارهاب". فبلا ذلك فان انياب هذه الافعى ستبقى تنفث سمها الى الداخل اللبناني وفي اي لحظة.
وطريق التحصين هذا، سياسي قبل ان يكون عسكريا وامنيا وهذا يفترض:
- اولا، رفع الحصانة عن "إمارة الجرود" واتخاذ القرار النهائي من قبل القيادات اللبنانية المعنية، بما يوفر المظلة السياسية الداخلية للحسم العسكري واجتثاث الخطر الكامن فيها، ذلك ان بقاء هذه البؤرة لم يعد مبررا، فضلا عن ان الفرصة متاحة وسانحة في هذا الوقت اكثر من اي وقت مضى في ظل الانهيارات الهزائم التي منيت وتُمنى بها من العراق وصولا الى سوريا.
- ثانيا، ان حجم الانتحاريين الذين فجروا انفسهم خلال عملية الجيش وكذلك حجم الموقوفين هو دليل ساطع على ان "امارة الارهاب" موجودة في تلك الجرود ومتفشية في مخيمات السوريين في منطقة عرسال، التي، اي المخيمات، تشكل حضانة كاملة وملاذا وملجأ لهم، وبالتالي تعتقل عرسال وجوارها.
لا شك ان المعالجة بالصدمات من حين الى آخر توجع الارهابيين وتقتل منهم وتلحق بهم الخسائر والاضرار، الا انها تبقى قاصرة عن استئصال هذا الورم الذي يتطلب عملية جراحية على مستوى أوسع وأشمل وبصورة نهاية، وهذا يوجب الانتباه الى أن كل يوم تأخير عن هذا الحسم، يتيح لتلك المجموعات الكامنة في "جرود الارهاب" ومخيمات اللجوء السوري في منطقة عرسال، فرصة اعادة التقاط انفاسها، ويوفر لها امكانية مد الجسور بينها وبين الخلايا النائمة في الداخل اللبناني، وإن قُدِّر لها ذلك فساعتئذ يضيع البلد ويُربَط بأحزمة ناسفة تطوقة، وتضربه في كل مكان. فهل من يضمن ألا تتفلّت تلك المجموعات في اي لحظة؟
يبقى ان الوحدة الوطنية يتم التعبير عنها يوميا، على ألسنة كل المقامات والمستويات السياسية والحزبية وغيرها، وكذلك الحال بالنسبة الى الموقف السياسي والرسمي الموحّد ضد الإرهاب بكل مسمياته "داعش" او النصرة او اي فصيل آخر. لكن ما يبقى هو ان يقترن كل ذلك بالقرار السياسي للحسم واستئصال الورم، واسقاط تلك الإمارة في جرود الارهاب، ,والا يستجوب القرار السياسي بالحسم قرارا جريئا من الدولة اللبنانية للشروع بحوار مع الدولة السورية سواء في اتجاه الحسم، او في اتجاه فتح الباب امام عودة النازحين السوريين الى بلدهم خصوصا وان فيها مناطق آمنة لاستيعابهم اكبر من مساحة لبنان .. هنا فقط تكمن العبرة لسلامة الجسم اللبناني.
تعليقات: