زينة وجوي وسمر وصلاح بين الضحايا والتوعية مفقودة
لا يمر يوم الا ونقرأ فيه خبراً أو نسمع أو نشاهد حادث سير تعرض خلاله رجل أو شاب أو فتاة أو طفل للصـــدم أو الدهس. وحـــوادث السير تختلف ولا يمكن حصرها بسبب واحد أو بجهة واحدة او بنوعية سيارات: خصــوصية، عمومية، عسكرية او مدرسيـــة. يدخـــل في الاسباب تقصير قانون السير اللبناني المعمول به منذ العام 1967 من دون اية تغيــيرات جذرية فيه، وسلامة المركبات، وعـــيوب الطرق، والعنصر البشـــري، وعـــدم التقيد باستــخدام حزام الأمـــان، وعدم الالتزام بالســـرعة المحددة، والقيادة تحت تــــأثير الكحول، وغيـــرها من الأسباب التي قد تتـــقاطع أو تفتـرق مسببة خسائر بشرية.
نحاول من خلال هذا التحقيق عرض تفاصيل حادث سير أدى الى خسارة طالبة حياتها. مثل هذا المشهد يتكرر بشكل شبه يومي على الاراضي اللبنانية، في ظل غياب الأرقام الرسمية عن عدد ضحايا حوادث السير. ونشير في هذا الاطار الى تقرير الفريق الاستشاري السويدي «سويرود» الذي حضر الى لبنان بطلب من الحكومة اللبنانية نفسها وعمل لفترة وصلت الى العام ولم يؤخذ بمقترحاته. هذه المقترحات التي لو أخذ بها، لكان اختلف الوضع جذرياً وتغير بشكل كبير كما حدث في كل من الأردن والمغرب.
كما نذكّر بالدور الذي يمكن ان تلعبه المدارس اللبنانية من خلال الاضاءة على هذا الموضوع، لكي نساهم سويا، بحصر هذا النزيف في دماء طلابنا.
كانت ليلة حارة من ليالي شهر تموز. الساعة تشير الى نحو العاشرة والنصف مساء. يرن الهاتف الخلوي للسيدة رندة خاطر حوش وهي موظفة مصرف، وأم لثلاثة شبان كبيرهم شادي ويبلغ من العمر الخامسة والعشرين وهو يدرس ويعمل في فرنسا، أوسطهم الصبية زينة والتي كانت من المفترض أن تبلغ العشرين ربيعاً لو.. وأصغرهم رواد ابن السابعة عشرة والذي يتحضر لامتحانات الثانوية العامة، هذا العام.
تتناول السيدة الأربعينية هاتفها لتجيب على الاتصال. يقول لها المتصل من الناحية الثانية «إن زينة تعرضت لحادث سير». كانت زينة صبية ممتلئة بالحياة، وتملك الكثير من الطاقات. لم تتوجس الوالدة شراً لحظتها، فابنتها السمراء كانت تتعرض دائماً لـ«حوادث بسيطة» نظراً لطاقاتها المرتفعة. لكن في تلك اللـيلة، كان المشهد مختلفاً تماماً.
ثلاث سنوات ونيف مرت على تلك الليلة المشؤومة التي فارقت فيها زينة، الطالبة في مدرسة سيدة الجمهور الحياة. لكن الوالدة الثكلى تعيد رسم المشهد بذاكرتها الحاضرة. تعيد ترميم ماحدث من على شرفة منزلها في منطقة الحازمية التي تطل على مدينة بيروت وضواحيها. استلزمها وقت طويل لأن تلتقط وتجمع خيوط هذا السيناريو وتفاصيل أحداثه.. كأنه وقع أمس.
هي نفسها عادت الى ذلك المكان مرات عدة لتستجمع أدق تفاصيل ذلك الحادث الذي غير حياتها. في تلك الليلة، وكانت الليلة التالية لعيد مار الياس، أحضرت زينة صور حفل تخرجها من الثانوية العامة الذي اقيم في فندق الفينسيا في بيروت من عند المصور، وكانت قد حصلت على نتيجة امتحانات البكالوريا الفرنسية التي فازت فيها. الا أن القرص المدمج لم يعمل يومها على الكومبيوتر في المنزل. كانت الصبية متحمسة جداً لرؤية صور حفلة التخرج فعرض عليها صديقها ايلي الذهاب الى منزله لمشاهدة الصور، والاحتفال بعيد شفيعه.
تدمع عينا الوالدة مراراً عندما تعود بالمشهد الى المستشفى حيث وصــلت على عجل. كانت الصبية ما تزال على قيد الحـــياة لكنها كانت فاقدة الوعي. أدخلت على عجل الى غــرفة الطوارئ. ما زال صـــوت الازدحــام في الغرفة يضـــج في أذني الوالدة الى اليوم..
هكذا وقع الحادث
وقع حادث الاصطدام عند طلعة بعبدا، لناحية قريبة من بنك بيبلوس. كانت السيارة متجهة نزولاً، والسائق كان مسرعاً. هكذا تجزم الوالدة. كان الشاب قد نال رخصة القيادة حديثاً، ولم يكن هو أو زينة قد ربطا حزام الأمان. ومن شدة السرعة فقد ايلي السيطرة على السيارة، التي التفت على نفسها واندفعت باستدارة كاملة، ما أدى الى اصطدامها من ناحية المقعد الموجود قرب السائق، أي ناحية زينة، بعمود الكهرباء الموجود وسط الطريق. أصيب ايلي ونجا، وأصيبت زينة وتوفيت. عصف الاصطدام كله تركز من جانبها.
عندما خرج الطبيب من غرفة العمليات أدركت الوالدة حرج حالة ابنتها. كان صدرها ورأسها قد تأذيا بشدة وتعرضت لنزيف قوي. قال الطبيب «أمامها أربع وعشرون ساعة صعبة»، ونقلت الى غرفة العناية الفائقة. صلت الوالدة ليلتها للسيدة العذراء كثيراً لكن مع ذلك، لم يتحمل جسم الصبية الساعات الأربع والعشرين التي حددها الطبيب.
بعد وقوع الحادث بأربع ساعات، غادرت الصبية منزل أهلهـــا والجامعة التي لم تــصلها حيث كانت تنوي أن تدرس ادارة الموارد البشرية...
البداية: غياب الأرقام الرسمية
دق تجمع الشباب للتوعية الاجتماعية ـ اليازا ناقوس الخطر منذ فترة في نداءاته وبياناته التي يتوجه بها الى اللبنانيين لتلافي المزيد من حوادث السير والخسائر الناتجة عنها بعدما بلغت أرقام هذه الأخيرة نحو ألف وفية، وأحد عشر ألف إصابة جراء حوادث السير على الطرق اللبنانية خلال العام الماضي، داعيا الجميع الى وضع السلامة العامة على الطرق في العام الجديد على رأس الأولويات، وليس كما هي اليوم في أدنى درجات الاهتمام.
يرى مؤسس اليازا زياد عقل أن رقم الوفيات المنشور هذا هو أقل بكثير من الواقع الفعلي، اذ أن حوادث الوفاة التي تسجلها قوى الأمن الداخلي في تحقيقاتها هي للناس التي تموت مباشرة اثر الحادث «لكن التحقيق يغلق بعد ثلاثة أو اربعة ايام ويحــول الى النيابة العامة، من هـــنا كل الأشخاص الذين يتوفون بعد هذه الفترة، لا يدخلون من ضـــمن هذه الأرقـــام». أما بالنسبة لأرقام الجرحى فإن هناك الحالات التي تنــقل الى المستشفى قبل وصول قوى الأمن الداخـــلي، وأهالي الجرحى الـــذين لا يريدون الدخـــول فـــي مشكلات قضــائية، مما يرشح هــذا الرقــم الكبــير للارتفاع أيضاً.
غير أن رقمين خطيرين (وهما تقريبيان) يشير اليهما عقل، استناداً الى مؤسسة الأبحاث العلمية، وهما نسبة الضحايا بين الشبان (15ـ 30 سنة) والتي تبلغ نحو ستين في المئة، ونسبة الأطفال (ما دون الخمس عشرة سنة) التي تبلغ عشرين في المئة، مؤكداً أن حوادث الســـير هي المســـبب الأول للوفاة عند الشبان والأطـــفال في لبنان، وفي العالم العربي.
وقد أشارت دراسة لاحصاءات حوادث السير في لبنان قامت بها «سويرود» (وهي بعثة علمية سويدية، تقنية، ومحايدة) استقدمتها الحكومة اللبنانية بهبة من حكومة السويد (قيمتها نحو ربع مليون يورو) الى نقص في الافادة عن حوادث السير التي ينتج عنها وقوع اصابات او قتلى، لافتة الى أن الوفيات في لبنان يتم تعريفها على انها اصابات تؤدي الى الوفاة على موقع الحادث» فيما يشمل التعريف العالمي تلك الوفيات التي تستجد خلال 30 يوماً بعد وقوع الحادث. وهكذا يمكن زيادة عدد القتلى في لبنان بنسبة 30 في المئة لهذا السبب وحده». واعتبرت الدراسة أن الأسباب الأخرى المعروفة وراء النقص في الافادة تعود الى أن الحوادث التي تتعرض لها مركبات الجيش اللبناني لا تدخل ضمن الاحصاءات الرسمية، كما ان احصاءات الصليب الأحمر تدل على وجود نقص في تقدير عدد الاصابات الناتجة عن حوادث السير في الاحصاءات الرسمية بنسبة قد تصل الى 75 ـ .100 اضافة الى ذلك فإن الحوادث التي ينتج عنها أضرار فقط لا تدخل البتة ضمن الاحصاءات بما أن شركات التأمين هي التي تهتم بها «وقد يتعدى عدد هذه الحوادث 100000حادث».
ويرى عقل ان مشـــكلة غياب الارقام هي من المشكلات الرسمية في النظــام اللبناني، فحتى اليوم لا تمـــلك أية جـــهة رسمية لبنانية مثلاً الأرقام الدقيقة لعدد وفيات حوادث السير، أو أمراض القلب، أو اي موضوع آخر. ويتفق مع عقل مدير اللجنة اللبنانية للوقاية من الحوادث المدرسية (LASSA) شــــربل علام في هذا الموضوع، اذ يؤكد أن الاستراتيجيات وخطط المعالجة موجودة لكن المعـــلومات غائبة «ولم يحــدث يــوماً أن بلغـــت مدرسة عن اصاباتها من الطــلاب ســـواء من القتـــلى أو الجـــرحى، في حوادث مــــرور، أو في حوادث مدرسية داخل المدرسة نفسها».
ويقترح عقل حلاً لهذه المشكلة، هو نفسه الذي اعتمد في الدول المتطورة: اطلاق نظام معلومات في المستشفيات (أرشفة) لرصد الحوادث والاصابات والوفيات والجرحى في كل مستشفى، ومن ثم يتم تجميع هذه الأرقام كلها عند وزارة الصــحة التـــي تكــون مسؤولة عن اصدار هذه الارقام.
تقرير «سويرود»
يعد الاطفال(الذين تعرفهم الأمم المتحدة على أنهم كل الأشخاص الذين لم يتموا الثامنة عشرة من اعمارهم) من المجموعات الضعيفة في المجتمع لذلك أكد تقرير «سويرود»، في فصله المتعلق بتوعية تلامذة المدارس حول سلامة السير، أنه من المهم توفير التربية الملائمة للأطفال لكي يدركوا مسؤولياتهم كمنتفعين من الطرق، لا سيما أن تقديم تربية جيدة حول موضوع السلامة على الطرق بإمكانه المساهمة الى حد بعيد في بلوغ هذا الهدف، مشدداً على أن التوعية حول سلامة السير في المدارس في وقت مبكر، والتدريب المبكر، هدفان مهمان اذ يساعدان الأطفال على فهم مخاطر السير، ويشكلان على المدى الطويل استثماراً لمستقبلهم.
ويلفت التقرير الى ان المواد المستخدمة اليوم في مناهج المدارس اللبنانية تقتصر على وقائع تدخل ضمن كتاب التربية المدنية فهناك خطر عدم التركيز بما يكفي على موضوع السلامة على الطرق، مؤكداً على الحاجة الى انتاج مواد تشمل قواعد واشارات السير وكيفية التصرف بشكل آمن في حركة السير، على أن تستهدف هذه المواد الأساتذة والأطفال والأهل.
ويشير التقرير في استراتيجيته المقترحة بهدف تحسين الوضع الراهن الى ضرورة توزيع المواد الموجودة مثل «ارشادات البقاء» على الأطفال الصغار، ووضع خطوط عريضة للأساتذة لمرافقة «ارشادات البقاء».
أما على المدى الطويل فيقترح ادخال موضوع «السلامة على الطرق» في المنهاج بشكل منفصل ومستقل، وإنتاج مواد تعليمية تتلاءم مع مختـــلف المراحل المدرسية، وتوفير تربية خاصة بموضوع الســـلامة للأساتذة، ومتابعة وتحسين المواد المنـــتجة باستمرار، ومتابعة الإحصاءات لمعرفة عدد الأطفال الذين يتعرضون لحوادث سير.
ويؤكد عقل أنه باستثناء اليازا التي نشرت التقرير في كتاب «السلامة المرورية في لبنان» وعلى موقعها الالكتروني(www.yasa.org) وتستعمله كوسيلة ضــغط على الادارات، فـــإن أية إدارة من إدارات الدولة لم تبد اهتماماً به «حتى أن هيئة ادارة السير انزعجت عندما نشرناه لأنه يدل على فداحة تقصيرهم».
مسؤولية مشتركة
ترى اليازا أنه يمكن للمدارس أن تساعد في نشر مفاهيم السلامة العامة واحترام القوانين والانظمة وخصوصاً تلك المتعلقة بالسير، وذلك عبر تنظيم الندوات والمحاضرات والنشاطات داخل المدارس الرسمية والخاصة.
اضافة الى تعميم مبادئ القيادة السليمة، وتوزيع المناشير، وتعليق الصور داخل المدارس، والمطالبة بمناقشة مضمونها مع الأهل، وتنظيم الأبحاث والدراسات والأناشيد المتعلقة بالمواضيع التي تدور في مجال السلامة العامة.
أسست رندة حوش هذا العام «مؤسسة زينة حوش» مع أصدقاء زينة، وامهات من اللواتي عرفن الصبية الراحلة، وأمهات خائفات على أبنائهن، بهدف التصدي لحوادث السير. تنظم الوالدة أسبوعاً عن حوادث السير لصفوف البكالوريا في مدرسة زينة، بالتعاون مع اليازا ورابطة قدامى الخريجين، ويختتم بيوم احتفالي. يتخـــلل هذا الأســـبوع مسابقات وامتحانات وفي ختامه تقدم «جائزة القــيادة». تمر حوش على الصفوف وتتــحدث الى الطلاب. تعمل على التأثير فيهم قدر الامكان. تنصحهم. تستـــخدم معـهم عبارات من نوع: «زينة كانت جالسة مكانكم. لا أريد ان تأتي والدتكم لتقوم بما أقوم به».
تؤكد حوش على أن مسؤولية التوعية على حوادث السير المدرسية هي مشتركة بين الدولة والمدرسة والأهل والجمعيات الأهلية والاعلام. هي نفسها تعمل على توسيع نشاط المؤسسة من مدرسة الجمهور ليشمل مدارس أخرى، وليطال أكبر فئة ممكنة من الطلاب. هذا هو مشروعها الحالي.
أخذت حوش المبادرة بعد وفاة ابنتها. لكن متى يشعر الجميع بفداحة الخسائر البشرية التي يتعرض لها طلابنا ومدارسنا لا سيما أن هناك ضحايا مثل زينة ما زالوا في الأذهان كالتلميذ صلاح الزعبي (13 سنة) من عكار الذي توفي أثناء سقوطه من فان المدرسة، والتلميذة ســـمر عـــطية التي توفيت وأصيب 16 من زملائها وسائق الباص بعد اصطدامه بشاحنة عسكرية في منطقة العباسية، والتلميذة جوي خليل ثلــج التي توفيت أمام منزل أهلها، بعدما دهسها باص مدرسة في منطقة صربا. توعية الطلاب والتـــلامذة ممكنة، وهي بمتناول المدارس والأهل والوزارات المعنية. لا نريد طـــلابنا صـــوراً في المدارس أو على السيارات والباصــات. نريدهم في المــدارس والسيارات والباصات.
تعليقات: