صناعة النحاس في القلمون.. أحمر، أصفر، ليّن، وصلب


مهما تقلبت الظروف، وتطورت التقنيات، يظل النحاس فارضاً حضوره ومطلوباً؛ إذ رافق النحاس الحضارة منذ العصور البشرية الأولى، وربما بالعثور عليه انتهى العصر الحجر، لكن النحاس استمر، ولا يزال، ويتواصل حضوره دون توقف حتى يمكن القول إن عصر النحاس لم ينته يوماً من الأيام.

تضطلع مطواعية النحاس بدور في ديمومته. فهو على جماليته ولونيه الأحمر والأصفر الذي يحاكي الذهب، مطواع، لين على صلابة وتماسك، يسهل العمل فيه، وإعطاؤه اي شكل، والخروج به بأي تشكيل فني، من حفر وزركشة وتفنن مختلف الأصناف.

يقول فداء عزو من صناع النحاس الأوائل في طرابلسوالقلمون لـ "النهار" إننا "نصنع ما نريد من النحاس، فهو لين، نحضره صفائح بسيطة، مسطحة، نعطيها الشكل الذي نريد، وننقش عليه ما نشاء، وكل عدتنا هذهالسندان ومطرقة وبعض أزاميل".

يتواصل الطرق في مشغل عزو في القلمون ويتناوب عليه معلمان. يذكر طرقهما المتناوب، بأصوات الطرق التي سادت سوق النحاسين في طرابلس، حيث اصطفت مشاغل آل حسون، وأنسبائهم آل عزو، والطرطوسي، وسواهم على حافتي الطريق حتى السبعينات من القرن الماضي، وما لبث هذا السوق أن بدأ بالتراجع، بسبب انتقال العديد من معلميه إلى خارج السوق، وخصوصاًإلى القلمون، وبسبب تراجع الطلب عليه بمواجهة الصناعات الحديثة.

يتحدث سليم عبد المجيد حسون لـ "لنهار" عن أهمية الخروج من السوق، حيث لم يعد سهلاً الوصول إليه منالزبائن الأجانب، لذلك "انتقل والدي منذ أوائل الستينات إلى القلمون، وأسس محلات تصنع النحاس، وتعرضهعلى الطريق الدولي الذي تحول إلى خط آخر لاحقاً بفتح أوتوستراد طرابلس - بيروت، فتحول السير عنه، وقل رواد الصناعة المحليون، لكن لا يزال الطلب على النحاس جيداً، وبطابع سياحي أساساً"، كما قال.

ويعيد حسون الحديث عن النحاس إلى المجال الصحي، ويتحدث عن فوائده ومدى انعكاسه على تطوير وتحسين صحة الانسان، خصوصا بعد التعديلات التي دخلت على تحضير صفائحه، بحيث لم تعد طناجر النحاس، وأوعيته الضخمة من دست، وحلة، وصدر فسيح تحتاج لتبييض - أي الطلاء بالقصدير من الداخل"، ويقدم أمثلة من الهند وبعض المجتمعات المعتمدة على النحاس في حماية الانسان من كثير من الأمراض.

ويروي حسون كيف طور والده عبد المجيد صناعة النحاس، عندما كان "نحاساً" في عشرينات القرن الماضي في سوق النحاسين بطرابلس، فـ "هناك يصنع النحاسون حاجات المنازل من أوعية وطناجر بسيطة.أصناف لا تتعدى الأربعة"، كما قال، مردفاً، "لكن والدي رغب في تطوير الصناعة فاتجه إلى مصر وتعلم التقنيات المصرية في خان الخليلي، ثم إلى المغرب، فإيران، والعراق، والسعودية، وسوريا، وبلدان أخرى، فاقتبس تقنيات جديدة، وطبائع تصنيع يختص بها معلمو كل بلد، مما أعطاه زخمه، وعنصر قوة لاستمرارنا حتى اليوم".

ويقول إن لوالده سبعة أولاد، علمهم كلهم صنعة النحاس، وهو سادسهم. ثم يعود بالذاكرة إلى الوراء، عارضاً كيف انتشر الحساسنة في مختلف الأنحاء، أما أهله، فقد جاؤوا من السفيرة في الضنية إلى طرابلس ثم استقروا فيها، وأخيراً إلى القلمون.

ويفيد أن الصناعة عليها إقبال جيد، ويقول: "نحن لنا خصوصيتنا التي ارساها والدنا عبد المجيد. لكن التقنية التي نتميز بها هي "تفضيض" (إدخال عنصر الفضة إلى النحاس) العمل، أي التركيز فيه على المعدن الراقي".

ويفيد حسون أن النحاس كان قبلة السواح الذين كانوا يعبرون من أمام محلاتنا إلى الداخل السوري، وكانت السيارات بالعشرات، والباصات الكبيرة تصطف أمام محلاتنا، ويشتري الركاب الكثير، فكانت أياما زاهرة. لكن توقف السياحة بعد 1975، أضعف صناعتنا، فحللنا الفضة محل النحاس.

يعج محل سليم حسون بالأغراض النحاسية، لكن جلها أبيض لماع، فهو مطعم بالفضة، ومنه الركاوى التي منها ما هو مفضض، ومنها النحاسي اللماع على حمرة.

ويتفنن صناع حسون في نقش الآيات القرآنية على ألواح النحاس، ويفضضونها بحسب الطلب، فاللوحة المفضضة أغلى ثمناً من اللوحة النحاس البحت.

ومن بين اللوحات يلاحظ وجود لوحات ذات طابع كنسي، مثل صورة السيدة مريم العذراء، وأخرى تمثل محطات من حياة السيد المسيح، ويعلق حسون عليها بالقول: "نحن نصنع لكل الناس، وهناك كثيرون من أخواننا المسيحيين يطلبون لوحات، ونحن نلبي طلبات الجميع".

وفي ردهة داخلية، تكتظ النحاسيات العتيقة والتقليدية بالأوعية المصنعة، وفيها العديد من الثريات، والمتدليات، وسواها من قطع.

لا يشكو حسون من كساد صناعته، ولا من تراجعها، وإن تحول اهتمام الناس بها، وبات الطلب الأوسع عليها، لغايات تزيينية، وديكور. وقال: "لنا زبائن كثيرون محليون وعالميون".

بعض التحديثات التي أجراها حسون على صناعته، هي وضع تصاميم بنزعة علمية. يقول: "يساعدني ابني، وهو مهندس ديكور، ويضع تصاميم ورسومات لصور أواعٍ تقليدية، ونحن نفصّل وننفذ".

في القلمون محلات عدة للنحاسيات، لكن جلها لآل حسون، "فهم أبناء أشقائي، من آل حسون، وأبناء أخوالي من آل عزو، ولكل أسلوبه الخاص، وتقنية يحاول كل الحفاظ على سريتها"، كما قال.

أبرز ما يقتنيه سليم أمام محلاته "الكركة" التي يكثر عليها الطلب في القلمون رغم ارتفاع ثمنها إلى ما يزيد على ثلاثة آلاف دولار، لكن أهميتها تكمن في ما تقوم به من تقطير لمواسم زهر الليمون الواسعة الانتشار والذائعة الصيت في البلدة.

وعلى مقربة من حسون، محلات آل عزو، الذين يتمتعون بصناعة مزركشة، ومتقنة، ومنها ثريا ضخمة في السقف، وقربها "مستوعب" كروي، فيه كثير من التخريم، بأشكال مختلفة، وهو يشبه "اللمبادير" بطابع شرقي.

بين النحاس وصانعيه صداقة ووداد، عزو يقول: "النحاس لين، طري، ونستطيع أن نصنع منه ما نشاء، والصناعة لا بأس بمردودها، والطلب عليها واسع، وهي ماشية، ولن تتوقف. لكن بعض الأحيان، نلاحظ أن الطلب يخف، شهراًأو شهرين، ثم يعود الزخم بعد حين، فنعوض الخسارة، لكننا لن نتوقف، ومستمرون بالعمل بالنحاس إلى مدى بعيد، وليس لنا غنى عن النحاس الذي تعودناه".

يواصل عزو عمله طوال النهار، وعند الغروب، يتجه إلى البحر الملاصق، ويغطس فيه غطسات عدة ينهي بها تعب يومه. بينما يلجأ سليم حسون إلى منزله، عندما يتوقف النحاسون عن طرق النحاس الطويل نهاراً.









تعليقات: