فجأة، ومن دون سابق انذار، هبت رياح الخماسين الصحراوية فعصفت بعلاقات الأخوة والصداقة والتضامن والمصالح المشتركة بين أهل الثروة من العرب، فاذا بأهل النفط يواجهون صاحب الغاز.. واذا العرب الفقراء يتوزعون: أكثريتهم عند السعودية ومن معها الإمارات والبحرين أساساً، ومن ثم مصر، والأقلية القليلة تشفق على قطر مع شماتة بغرورها وتنطحها لدور يتجاوز قدراتها.
وبطبيعة الحال وجدت الولايات المتحدة الأميركية نفسها معنية، فالكل حليف وإن في موقع التابع، ومصدر خير، له بعضه ولها الحصة الأعظم منه..
أكثر الأطراف حرجاً كانت تركيا التي رعت في قطر ومعها “الأخوان المسلمين”، كما رعت ـ بالمقابل ـ وغطت تفردها، علناً، ومن دون سائر دول الجزيرة والخليج بإقامة علاقات دبلوماسية علنية، على شكل قنصلية سرعان ما صارت سفارة، مع العدو الإسرائيلي.
وهكذا تبرعت حكومة أردوغان بدور “الوسيط “، فزار موفدون منها الرياض والدوحة، لكن الخلاف كان قد تجاوز الحدود، فاكتفت بأن تضمن استمرار قاعدتها العسكرية في الدوحة.. وهي قاعدة لا مبرر لها ولا وظيفة فعلية، خصوصاً وانها تشغل حيزاً بسيطاً من القاعدة الأميركية الكبرى في العيديد، على الحدود القطرية مع دولة الإمارات، وهي تطل على خط الحدود مع السعودية ..
تدهورت العلاقات أكثر فأكثر، وتزايدت حدة الحملات الإعلامية بعنوان “الجزيرة” مقابل “العربية” ومن معها، فكان ان تدخل رجل المصالحات والحلول الوسط، أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح.. وسافر بسنيه الثمانين الى الرياض للقاء الملك سلمان، ثم الى دولة الإمارات للقاء نائب رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد، قبل أن يحط رحاله في الدوحة ناقلاً المطالب (حتى لا نقول الشروط) السعودية..
ووعدت الدوحة، ثم كتبت الرد وحمله وزير منها الى الشيخ صباح الذي نقله الى الرياض فاذا بالأزمة تزداد احتداماً… واذا بالثلاثي السعودي الإماراتي البحريني ينتقل الى القاهرة، في خطوة توحي بإقفال باب الوساطة في انتظار تلبية شروط الإستسلام!
كانت الولايات المتحدة تلعب على الحبلين: اتصال بالشيخ تميم، يليه اتصال بالملك سلمان في الرياض .. وبين الاتصالين صفقة طائرات لقطر باثني عشر مليار دولار، أما السعودية فقد كانت ردت على تحية دونالد ترامب بأن خصها بزيارته الأولى بأجمل منها: صفقة يزيد مجموعها عن أربعمائة وعشرين مليار دولار..
المهم أن المواطن العربي البسيط لم يعرف، حتى هذه اللحظة، الأسباب الحقيقية لهذا الخلاف المتفجر بين “الأشقاء الأغنياء” في حين ان ما يحفظه هو ان الفقر سبب المشاكل جميعاً .. فلماذا يختلف أهل الثراء الذين لا يعرفون كيف ينفقون سيل الذهب المتدفق عليهم، أسود وأبيض؟
ثم ان جهود قطر للتميز عن سائر دول الخليج ليست جديدة، وليست وليدة مزاج الشيخ تميم، بل انها سابقة على توليه السلطة بعد “استقالة” غير مبررة وغير مفهومة لوالده الشيخ حمد (وشريكه في الحكم الشيخ حمد بن جاسم، فضلاً عن شريكته الشرعية الشيخة موزة ـ والدة تميم)..
والحقيقة انه اذا كان الشيخ حمد قد استقال طوعاً (وللتخلص من شريكه القوي الشيخ حمد بن جاسم، في ما يقال) فان الشيخ تميم قد حفظه في مقام “الأمير الوالد” يستشيره في كل كبيرة وصغيرة ويعمل برأيه غالباً .
في هذه اللحظة بالذات، نطق الأمين العام لجامعة الدول العربية المنسية، فقال ما مفاده ومعناه: أن الجامعة غير معنية وغير مؤهلة للتعامل مع الخلافات الخليجية ..
بالمقابل تلاقى سفراء السعودية والإمارات ومصر في إحدى العواصم الغربية وقالوا في بيان رسمي ما مفاده: “ان العلاج العربي لا ينفع، وانه لا بد بالتالي من الذهاب بالخلاف الى مجلس الأمن الدولي ..”
كل ذلك من دون أن يفهم المواطن العربي الأسباب الحقيقة لهذا الخلاف الذي لم يتورع أطرافه عن استخدام لغة “حربية” متفجرة..
***
في الكواليس والغرف الخلفية يجري الحديث عن ان الموضوع الفعلي للصراع مع قطر هي علاقتها الخاصة مع إيران والتي من بين ركائزها الشراكة في الحقل البحري للغاز..
لكن السعودية ومن معها الذين رفعوا حدة العداء مع قطر الى حافة المواجهة بالحصار، يفضلون أن تكون الحرب على إيران مموهة باسم قطر، مع ان شعاراتها ومضامينها كانت تقصد طهران الخميني وحرسه الثوري، وتشير الى “خطة التوسع الإيراني على حساب العرب”، ملمحة الى دور “الحرس الثوري” في كل من العراق وسوريا.. وصولاً الى اليمن حيث تخوض السعودية، ومعها الإمارات، حرباً ضارية في البر والبحر والجو، ومنذ سنتين طويلتين، ضد شعب اليمن المفقر حتى الجوع.. والذي أضيف الى مصائبه في الشهور الأخيرة مرض الكوليرا الذي يلتهم الأطفال خاصة والأهل جميعاً..
بالمقابل، وما دمنا في اليمن، فان الحرب المتوحشة التي تشنها السعودية قد حركت، مجدداً، النزعة الانفصالية عند الجنوبيين، الذين كانت لهم، ذات يوم، “دولة” تحت اسم “جمهورية اليمن الديمقراطية”، وثمة من قيادات تلك “الجمهورية” التي أنهى وجودها بحرب التوحيد فتم دمجها بالشمال، من يعمل الآن مستفيداً من الفوضى الضاربة أطنابها في اليمن الى إعادة إحياء مشروع الإنفصال بالجنوب.
السؤال: الى أين يدفع اليمن، عبر الحرب الضارية على الشمال، باسم مكافحة الحلف بين الحوثيين (المتهمين بأنهم يتلقون دعماً إيرانياً مفتوحاً) وحزب الرئيس السابق على عبد الله صالح؟!
ان الحرب التي تشنها السعودية، ومن معها، على اليمن ستوسع مساحة التدخل الإيراني ولن تنجح في التضييق عليه، خصوصاً اذا ما استمر “التهييج السني” نصرة “للشوافع” ضد “الزيديين” الذين يعتبرون أقرب الى الشيعة، علماً بأن المسألة الطائفية والمذهبية في اليمن لم تكن مطروحة على المستوى الشعبي، وان ظلت دائماً موضوعاً قابلاً للاستثمار في المجال السياسي..
***
في هذا الوقت بالتحديد، شهدت المنطقة حدثاً تاريخياً بدلالات عميقة:
فقد قام رئيس وزراء الهند السيد ناريندرا مودي بأول زيارة من نوعها، الى الكيان الإسرائيلي والتي تعتبر، بحق، سابقة تستحق الوقوف أمامها والتعمق في دلالاتها ومراميها… ثم ان الهند، التي كانت بين أبرز وأخطر وأصدق العرب والقضية الفلسطينية، على وجه الخصوص، ما كانت لتقدم على هذه الخطوة ذات الدلالات العميقة، والتي كان بين نتائجها عقد صفقة سلاح إسرائيلي بقيمة مليار دولار، لو أن أصدقاء الهند من العرب ظلوا أصدقاءها وراعوا مصالحها وحرصوا على إبقاء الباب موصداً في وجه العدو الإسرائيلي..
في الوقت ذاته كانت معركة تحرير الموصل في العراق تقترب من خاتمتها بتصفية “دولة داعش” في أرض الرافدين،
لكن ما بعد تحرير الموصل، ثم الرقة، لن يكون خاتمة الحرب ضد الإرهاب.. ومن الصعب تصور عودة العراق، التي تتواجد فوق أرضه وفي سمائه حالياً، قوات أميركية وفرنسية وبريطانية واسترالية والحشد الشعبي المدعوم إيرانياً الخ ..
كذلك فان في سوريا قوات أجنبية (روسية) جاءت بطلب من الحكومة السورية، اضافة الى قوات إيرانية فضلاً عن مقاتلي “حزب الله” في لبنان، وجبهات وتنظيمات عدة بعضها اخواني الطابع وبعضها الآخر اشتات من المعارضات مختلفة الشعار.
هل ثمة خرائط جديدة ترسم للمنطقة؟؟
وهل للحرب السعودية (ومن معها) على قطر علاقة بهذا كله؟؟
وأين المرجعية العربية لتقول كلمتها الفصل في هذه المخاطر التي تتهدد الغد العربي ..
أم أن لكل ملك أو رئيس أمير ما أمامه… الى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً؟
تعليقات: