لماذا يُؤخَذ بالمناقصات المخسِّرة وتُهمَل المُربِحة؟
سكتت المدافع في جرود عرسال وبردت الجبهة العسكرية، لكن يبدو أنّ مَدافع الجبهة السياسية في الداخل قد بدأ تذخيرُها تمهيداً لاشتباكٍ سياسيٍّ جديد على سطح باخرة الكهرباء. والشرارةُ الأولى تبدّت في تقرير «إدارة المناقصات» وما أحاطه من مداخلات سياسية وضغوط لتغيير مضمونه. وكذلك في المؤتمر الصحافي لوزير الطاقة سيزار أبي خليل، والذي انطوى على عدم رضى عن التقرير المذكور، وعلى نبرةٍ إتّهامية حادة تجاه قوى سياسية مرحِّبة بهذا التقرير ومعترِضة على المناقصة.
إذاً، فرضيّة الاشتباك يعزّزها الجوّ المشحون سياسياً وكهربائياً، والاصطفاف الواضح في جبهتين متقابلتين، بين جبهة أولى تضمّ المعترضين على التقرير والمتمسِّكين بمناقصة البواخر، وجبهة ثانية تضمّ الرافضين لهذه المناقصة والمتمسِّكين بالتقرير.
وبعث مؤتمر الوزير في أوساطها «الاستهجان من سابقة أن يردّ وزير على تقرير بمؤتمر صحافي ومن أن يتولّى تقييم عمل إدارة، وكأنه يتهمها، ألم يكن مِن الأولى ترك الأمور تأخذ مسارها الطبيعي الى مجلس الوزراء ليتّخذ هو القرار النهائي»؟
وأما إدارة المناقصات فرفضت التعليق، إلّا أنّ هناك مَن يقول في محيطها: «قال الوزير شيئاً وتجاهل أشياء أي إنه قال ما يعجبه في التقرير وتجاهل الإشارة الى ما لا يعجبه».
واضحٌ أنّ الكلَّ على سلاحه، فريق المناقصة مصرٌّ عليها ولا يوفّر طريقة لتمريرها، وأما الفريق الآخر وكما يعبّر عنه أحد المسؤولين، فمرتابٌ من هذا الإصرار، ويسأل عن الغاية الحقيقية الكامنة خلفه، وخلف محاولته تجاوز تقرير إدارة المناقصات.
يقول المسؤول المذكور: «كنّا قلقين في ما سبق من وجود «أمرٍ ما» نجهله، وبنسبة 50 في المئة، وأما الآن فصار قلقُنا بنسبة 100 في المئة».
يضيف المسؤول نفسُه «لا نريد أن نتّهم، بل نضع سؤالاً في يد «فريق المناقصة» ومَن هم خلفه: لماذا نرى إصراركم في هذا الملف دون غيره رغم أنه يكلّف خزينة الدولة مئات ملايين الدولارات، ولا نرى هذا الإصرار في ملفات أخرى توفّر على الخزينة ملايين الدولارات؟
بل الأنكى من ذلك أننا نسمع عن محاولات تُجرى في الخفاء لإلغاء بعض المناقصات الجدّية والجاهزة للتنفيذ وإعداد مناقصات جديدة حول الموضوع نفسه، تُشتمّ منها رائحة عمولات وما شابه ذلك».
هنا، يسحب المسؤولُ المذكور من درْجه نسخة عمّا وصفها «مناقصة جاهزة للتنفيذ ما زالت معطّلة حتى الآن رغم أنه مضى عليها سنوات ولها علاقة باستدراج عروض لتلزيم إنشاء محطة عائمة لتخزين و»تغويز» الغاز الطبيعي.
وقد أرسلت وزارة الطاقة والمياه في عهد الوزير ارتيور نظريان كتاباً الى مجلس الوزراء منتصف العام 2014 تطلب فيه الشروع في التنفيذ وذلك «نظراً للحاجة الماسّة وحرصاً منّا على عدم إضاعة الوقت والبدء بمرحلة التوفير في إنتاج الطاقة الكهربائية في أسرع وقت ممكن»، وهذا ما ورد حرفيّاً في كتاب الوزارة».
ويضيف: «أنّ كتاب الوزارة يلحظ إشارةً بالغة الأهمية تؤكد أنّ الوفر المتوقّع في معامل إنتاج الطاقة الكهربائية في لبنان بنتيجة استخدام الغاز الطبيعي كبديل عن الفيول والغاز أويل في كل وحدات إنتاج الطاقة الكهربائية ما يعادل مليار و91 مليوناً و155 الفاً و330 دولاراً اميركياً سنوياً، فلماذا نلجأ الى مناقصات مخسِّرة ونهمل مناقصات مربِحة»؟
في أيّ حال، يقول المسؤول المذكور، «صدر تقرير إدارة المناقصات وصار أمراً مفعولاً، وأُحيل الى الوزير المختص ووصل الى رئيسَي الجمهورية ومجلس النواب، والأهم من كل ذلك أنه صار في متناول الرأي العام».
إلّا أنّ المسؤول يستدرك ويقول «استبشرتُ خيراً بتقرير إدارة المناقصات الذي حدّد الثغرات والعيوب التي تعتري هذا الملف، ولكنني شعرت باستفزازٍ جدّي؛ فقد كنتُ أتوقعأان يركن الى هذا التقرير مَن يجب عليه أن يكون أول مَن يركن اليه.
لا أن يذهب الى استهداف الإدارة باللوم ويجعلها هدفاً لـ «جوقة» من لون سياسي معيّن تمارس الترهيب والترغيب معها لحملِها على التراجع عن تقريرها. في حياتي السياسية كلها لم أشهد مثل هذا التدخّل الفاضح حتى لا أقول أكثر من ذلك».
يتفق المسؤول المذكور مع كل الأصوات التي ارتفعت اعتراضاً على هذا الأداء إلّا أنه شخصياً يبحث عن إجابات عن سلسلة أسئلة يردّدها:
أولاً، عن سرّ «الصمت» الذي يُعتمد حيال ما جرى وعلى وجه الخصوص من قبل من يفترض أن يكونوا أوّل الصارخين في وجه مَن يعمل ويصرّ على مخالفة القانون، وأوّل المطالبين بمساءلتهم ومحاسبتهم.
ثانياً، عمّا إذا كان رئيس الجمهورية في جوّ ما يجري وهل يرضى بذلك؟
ثالثاً، عمّا إذا كان رئيس الجمهورية يقبل بأن يتغطّى أحد به ويراجع إدارة المناقصات ويدّعي ويقول إنه ينقل رغبة الرئيس بأن تسمح الإدارة بفضّ العروض أو بالأحرى العرض الوحيد الذي تتضمّنه المناقصة؟
رابعاً، عمّا إذا كان هذا المنحى ينسجم مع دولة القانون الموعودة في هذا العهد ومع الشعارات الإصلاحية الكبيرة والكلام اليومي عن الثورة على الفساد والفاسدين ومخالفي القانون؟
خامساً، عما إذا كان المصرّون على مخالفة موصوفة وفاضحة للقانون في قضية البواخر يعلمون بأنّ المُحرَج الأوّل من هذا المنحى المصرّ على المخالفة هو رئيس الجمهورية قبل أيّ أحد آخر؟ فإن كانوا يعلمون مصيبة وإن كانوا لا يعبأون فالمصيبة أكبر.
تتقاطع اسئلة المسؤول المذكور مع رأي يبديه مَن هم في صف الحلفاء للعهد، ويرون أنّ هذه المسألة - المخالفة - تضع رئيس الجمهورية في موقع المتصدّي الأول لها:
- كونه حامي الدستور والقانون.
- كون هذه المخالفة، إن تمّ تمريرها أو تجاهلها، تُسجَّل على العهد بحبرٍ ثابتٍ تستحيل كل محالات إزالته.
- كون هذه المخالفة تمسّ أو تضرب أسسَ الدولة التي لطالما قال العهد إنه يريدها كاملة المواصفات الدستورية والقانونية وخالية من كل الشوائب و«المُلطِّخات» لها أيّاً كان شكلها أو مصدرها.
- لأنّ هذه المخالفة قد لا تكون يتيمة أو وحيدة، ذلك أنّ مخالفات مستورة أو يجري التستر عليها في بعض زوايا الوزارات والقطاعات، وبالتالي فإنّ ردعَها ينبغي أن ينسحب على كل المخالفات الأخرى التي تتردّد على كل لسان.
- لأنّ هذه المخالفة تنسف أو تشوّه أو تشوّش على المسعى الرئاسي الذي تجلّى في مبادرة رئيس الجمهورية الى جمع أحزاب الحكومة في بعبدا، والتوافق الذي تمّ على إطلاق عجلة الدولة في اتّجاه التفعيل والتنشيط والإنتاجية الحكومية وليس في اتّجاه مخالفة القانون تحت أيّ ذريعة أو عنوان.
لكن في موازاة هذا الكلام رأيٌ آخر لأحد الوزراء المعروف عنه اعتراضه الشديد على مناقصة البواخر ويقول «لا أعارض المناقصة من حيث المبدأ، بل لأنني وجدتُ فيها ثغراتٍ وقد عبّرت عن رأيي وقلتُ كل ما عندي في مجلس الوزراء، ومحضر الجلسة يسجّل اقتناع عدد كبير من الوزراء بما قلته، لقد كنتُ مرتاباً من البداية، من المحاولات الحثيثة لتمرير هذه المناقصة حتى بمعزل عن مجلس الوزراء ورغم صدور تقرير إدارة المناقصات ما زلتُ مرتاباً لأنهم يتصرّفون وكأنّ هذه الصفقة «محمية» وأقوى من الجميع.
و«كتأكيد إضافي على كلامي» يضيف الوزير المذكور «سأروي هذه الواقعة: في إحدى الجلسات الرسمية دخل «المسؤول الكبير» الى القاعة متبرّم الوجه وما هي إلّا لحظات قليلة حتى «خبط» بيده على الطاولة التي كان يتحلّق حولها جمعٌ من الوزراء وتوجّه اليهم بما مفاده: «ما بيجوز هيك، هيدا مش شغل، سياسة التعطيل مش مقبولة، وزير يتدخّل بشؤون وزير، ووزير بيعطّل وزير، ووزير يزايد على وزير، هيدا أمر ما بيجوز، الوزير هو سيّد وزارته، وهو صاحب القرار فيها».
تضيف الواقعة، كما يوردها الوزير المذكور،»ثمّ أتبع المسؤول الكبير كلامه بمطالعة حول أهمية صفقة البواخر وضرورة السير بها لضرورتها ودورها في تحسين الوضع الكهربائي المهترئ».
هذه الواقعة بحسب الوزير حصلت خلال فترة الاشتباك الكهربائي حول البواخر الذي دار بين بعض القوى السياسية وأخذ فيه التيار الوطني الحر وتيار المستقبل جانب الدفاع عن الصفقة وأخذ فيه حزب «القوات اللبنانية» وحركة «أمل» وآخرون جانب الاعتراض عليها وعلى محاولة تمريرها بمعزل عن مجلس الوزراء إستناداً لقرارٍ قديم من أيام حكومة نجيب ميقاتي، وبكلفة تزيد عن مليار و880 مليون دولار.
يقول الوزير «يومها توجّهتُ اليهم بسؤال» أقنعونا بصحة ما لديكم، الوزارة التي أتولّاها احتاجت الى لوازم مكتبية وترميميه لبعض الأمور المعطلة فيها قيمتها الإجمالية حوالى 50 ألف دولار، وفرضتم علينا الاستحصال أولاً على قرار من مجلس الوزراء لكي يسمح بصرف هذا المبلغ، فكيف تريدون منا أن نوافق على تمرير صفقة تكلّف الخزينة 1880 مليون دولار دون أخذ الإذن من مجلس الوزراء أو على الاقل قبل إحالة هذا الملف الى إدارة المناقصات»؟
يختم الوزير: «أنا أعترف أنّ كلامي هذا لم يكن له أيّ صدى عندهم».
تعليقات: