تستيقظ على صوت المنبه، تغسل وجهك وتنظف أسنانك مستخدماً إحدى العلامات التجارية. تتناول فطورك، تشرب القهوة، تلبس ثيابك، وتغادر البيت متجهاً الى سيارتك. تشغل القرص المدمج، المتضمن مجموعة الأغنيات التي تعودت سماعها كل صباح، وتنطلق إلى نهارك. ولكن، قد لا تنتبه إلى أن حياتك بكافة تفاصيلها، باتت مؤسسة على العلامات التجارية والملكية الفكرية.
باتت "القرصنة" في لبنان بكافة أشكالها، أو سرقة ابتكارات الغير، بمثابة الرغيف الذي يشتريه المواطن ليشبع جوعه، من دون أن يكترث إلى الأسلوب الذي حصل من خلالها عليه. بمعنى آخر، يشعر أن ظروف الحياة تجتمع ضده، منتجة ما يسمى بالضيق الاقتصادي. فيبحث عن البدائل مهما كانت، مبرّراً لنفسه الحق في اللجوء إلى أية وسيلة، بسبب تقصير الدولة في تأمين أبسط حقوقه. "فهل يوجد شيء شرعي في لبنان"؟ يتساءل أحد التجار مستهزئاً.
ولاحظ سمير تابت، أن الموسيقى هي أكثر المجالات تعرضاً للقرصنة "لأن استعمالها سهل بالمقارنة مع مجالات أخرى". تكمن المشكلة برأيه في إزالة النص الوارد في القانون 75/99 "بسحر ساحر"، الذي يفرض ضريبة بنسبة 5 في المئة على آلات التسجيل والكومبيوتر التي تتم بواسطتها عملية القرصنة. وتشير بعض المصادر المعنية بالملف إلى أن عدم التشديد من قبل القضاء يساعد في طمأنة المخالفين وتماديهم.
في شارع صبرا الرئيسي، تنتشر محلات الثياب، الخضار، العطور، والأقراص المدمجة المتنوعة، وتشمل: أغنيات، أفلام، برامج ألعاب، الـ playstation، وغيرها من المنتجات. هنا الناس في عجلة من أمرهم، لتبدو الحياة في حركة سريعة مستمرة. يقف شاب بجانب عربته المحملة باسطوانات فنية في إحدى زوايا الشارع منتظراً قدوم الزبائن، وصوت كاظم الساهر يصدح من المذياع على العربة. يرتدي وجهه ملامح مرتبكة لدى الاستفسار عن بيعه أقراص غير شرعية. يعتقد أن السائل هو أحد عناصر مكتب جرائم المعلوماتية والملكية الفكرية. يطلب رؤية البطاقة الصحافية ليتأكد من هويته، وقد عرّف عن نفسه كصحافي، فيهدئ من روعه. تتفهم خوفه بعد أن يخبرك أنه تم القبض عليه لمرات ثلاث متتالية. مصادرة بضاعته والسجن لم يردعاه عن متابعة الاتجار بالاقراص المنسوخة، هي المهنة الوحيدة التي يتقنها. يبدو المشهد بينه وبين الدولة أشبه بـِ"الكر والفر". يتوقع أن يُضبط بالجرم المشهود في أي وقت، خصوصاً وأن دوريات الشرطة تكثف من جولاتها في هذه الأيام بعدما تم انشاء مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية والملكية الفكرية. يقاطعه أحد التجار الموزعين للأقراص أثناء محادثته، قائلاً: "لن يتوقف هذا العمل في لبنان، وغشيم من يظن عكس ذلك".
لـ"زميله" في المهنة قصة مختلفة؛ يهرب الأقراص المنسوخة عبر الحدود اللبنانية – السورية، التي باتت أسهل من "البور" في هذه الفترة. ثم يقوم بتوزيعها، ويتكل على المواطن اللبناني لإستمرارية عمله "لا أحد يشتري الCD بسعره الأصلي خصوصاً الطلاب الذين يأخذون مصروفهم من أهلهم". يشرح أن القرصنة في لبنان باتت جزءاً من طبيعة اللبنانيين، ويتساءل: "هل يستطيع أحد أن يوقف مد الكابلات الى البيوت؟". يحمل كلامه مزيجاً من التحدي والسخط على الأوضاع. التي دفعت به لمزاولة هذا العمل غير الشرعي، هو الذي يحمل إجازة جامعية. ويلاحظ استهداف الطائفة الشيعية من بين الذين يمتهنون هذا العمل، وهي برأيه مجرد تتمة لاستهدافهم في الأوساط السياسية.
بالعودة إلى المصادر عينها، يُعتبر داخل صبرا "منطقة أمنية" يصعب مداهمتها. تتفادى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي احتكاك عناصرها مع بعض المجموعات والمجرمين في أحيائها، حفاظاً على سلامتهم. ولا يعتبرها المستشار القانوني في الجمعية اللبنانية للملكية الفكرية راني صادر "مناطق لبنانية" لانها خارج سيطرة الدولة. من جهة اخرى، غالباً ما يتم التنسيق بين القوى الأمنية والأحزاب المسيطرة على بعض المناطق لحلحلة العراقيل التي قد تواجههم. والمشكلة التي تعطل أحياناً عملها هي مسألة تسريب المعلومات قبل مداهمة محل معين، أو تمتع المخالف بدعم سياسي، تجعل مصادرة بضاعته شكلية. ويقول بعض التجار أن البضاعة المتلوفة تكون في مجملها غير صالحة للاستخدام. وهذا لا يعني أن قرصنة الأقراص المدمجة(نسخها وتهريبها...)، محصورة في صبرا، بل تشمل كافة المناطق اللبنانية دون استثناء.
بحسب "دليل الملكية الفكرية"، يمكن تحديد مفهوم الملكية الفكرية باعتبارها الحقوق التي تعطى للأشخاص بهدف حماية ابتكاراتهم. وتمنح هذه الحقوق المبتكِر الحق الحصري في استعمال ابتكاراته لفترة زمنية محددة.
التزم لبنان منذ العشرينيات من القرن الماضي(17/1/1924)، بقرار من المفوض السامي الجنرال ويغان، ينص على حماية الملكية الفكرية التجارية والصناعية والأدبية والفنية والموسيقية، كما انضم الى اتفاقيات دولية ترعى هذه المسائل. قام لبنان لاحقاً بورشة اصلاحات تشريعية بغية تطوير وتحديث القوانين، فأصدر في العام 1999 القانون الرامي الى حماية الملكية الأدبية والفنية، وقانون براءات الاختراع في العام 2000. وانجز في 2005 و2006، العمل على مشاريع قانون ترمي إلى "حماية علامات الصناعة والتجارة والخدمة" و"حماية التسميات الجغرافية" و"وحماية الرسوم والنماذج الصناعية" "والحماية من المنافسة غير المشروعة".
تبعه انشاء الجمعية اللبنانية لحماية الملكية الفكرية في ال2004، كنتيجة جهود مجموعة من المحامين والناشرين وذوي الاختصاص، بسبب الحاجة الى
جمعية لبنانية تعنى بالملكية الفكرية، خصوصاً وأن أغلب الجمعيات التي تتعاطى هذا المجال عالمية، وينصب اهتمامها على حماية العلامات غير اللبنانية.
يعتبر صادر أن اللبناني لا يمانع تقليد منتجات مايكروسوفت على سبيل المثال، فـ "بيل غايتس لن يتأثر" كما يرددون. لذا تهدف الجمعية الى توعية الناس على كل ما له علاقة بالملكية الفكرية، العلامات التجارية، حقوق المؤلفين، وفي مرحلة لاحقة: "اذا بدنا نحمي حالنا، بدنا نحمي غيرنا".
يشدد صادر على أهمية اقامة محاكم متخصصة لمعالجة قضايا الملكية الفكرية. إذ أصبح اقتصاد العالم اليوم قائماً عليها، ويتجلى ذلك في تخصيص جزء كبير من ميزانية بعض الدول: أميركا واليابان وألمانيا في هذا السياق. تنقسم بحسب صادرالى ملكية تجارية وصناعية، وحق المؤلف والحقوق المجاورة. وتشمل الأولى العلامات التجارية، الحقوق الصناعية، geographical indications. يقول صادر أن بعض المواطنين يلغون علاقتهم بالملكية الفكرية، لظنهم أنهم غير معنيون بها مباشرة كالمؤلفين والناشرين على سبيل المثال. ويضيف: "عملياً يوجد المستهلك، فقوانين حماية الملكية الفكرية، مبنية أساساً على حماية المستهلك كي لا يتعرض للضرر".
ويشير الى ما يسمى اليوم "بالجريمة المنظمة". إذ يربط المحللون اليوم القرصنة والتقليد بالارهاب وتبييض الأموال، وتجارة المخدرات. من ناحية أخرى، انتقل العديد من الناس على حد قوله من تجارة المخدرات الى تجارة البضاعة المقلدة، لخطورة الأولى التي قد تصل عقوبتها الى الاعدام. الا أن المخالف على صعيد الملكية الفكرية، يحاكم على أساس ارتكابه جنحة.
ويمتلك المؤلف فكرته بمجرد تنفيذها، إذ أن الفكرة بحد ذاتها غير محمية..بينما تسجل العلامات الفارقة والتجارية والاختراعات، في وزارة الاقتصاد لتملكها من قبل صاحبها.
وكخلاصة، يحاول صادر القول أن المواطن يتعرض للسرقة، "يوجد مافيا تريد الاحتيال على المستهلك، وهو غير مدرك أنه يتعرض للسرقة من قبل التجار المهربين، ما يؤدي الى ضرر اقتصادي كبير على الشركات والدولة".
ولكن الطلاب كعينة من المجتمع غير قادرون على شراء الـCD الأصلي. بداية يستغرب صادر هذه الفكرة، إلا أنه يستدرك قائلاً أنه هناك محاولة للضغط على الشركات لتوفير منتجاتها الترفيهية بسسعر خاص. وفي مجالات أخرى، كالكتب على سبيل المثال، فإن التنسيق جار مع الجامعات ووزارة التربية لتوفيرها بسعر أقل، وبالتالي تنعدم حجته.
كادر:
لم يعد لبنان يصنف بين الدول العشرين الأول على لائحة المنتهكين، وفقاً للتقرير السنوي لقرصنة البرامج المعلوماتية الذي يصدره اتحاد منتجي برامج الكمبيوتر التجارية والذي تم اعلانه في 26أيار 2006. وقد تدنى معدل القرصنة في لبنان نقطتين مئويتين الى 73 بالمئة (75% في العام 2004) وارتفعت خسائر منتجي برامج المعلوماتية الى ما قيمته 34 مليون دولار اميركي (26 مليون دولار أمريكي العام السابق). ورغم أن قرصنة برامج الكومبيوتر تراجعت من 93% في العام 1999 الى 73% في العام 2004، الا أن هذه النسبة تبقى الى حد ما عالية مقارنة مع معدل القرصنة في المنطقة، والذي بلغ 57% في العام 2005.
في هذا الصدد، يؤكد علي الحركة، مسؤول الصيانة في شركة مايكروسوفت وممثل شركة BSA، أنه يتوجب على المستهلك التأكد من قانونية المنتجات قبل شرائها، إذ أن العديد منها قد يكون مصمماً بشكل مشابه لمنتجات الصانع الأهلي، الا أنها تكون أقل جودة. وفيما يتعلق بأسعار البرامج التجارية المرتفعة، والتي تضطر غالبية الناس الى اعتماد القرصنة، يقول الحركة أن معظم البرامج مخصصة عادة لرجال الاعمال. وتشكل جزءاً من الكلفة التشغيلية للمؤسسة خلال فترة شراء التراخيص، فرش المؤسسة، وسياراتها. وتعتبر تلك البرامج جزءاً من أدوات زيادة الكفاءة والانتاجية. أما بالنسبة للمستهلك العادي، فباستطاعته الاستفادة من الأسعار الخاصة للطلاب. كما اننا نقدم للمؤسسات التعليمية اسعار خاصة، يصل معدل الحسم فيها الى 90%. ويضيف الحركة فيما يخص المؤسسة، أنه ينبغي أن يكون لكلّ جهاز كومبيوتر مجموعة خاصة من البرامج الأصلية، ذلك أن شراء نسخة واحدة منها واستعمالها في أكثر من جهاز او اعارتها للغير أو نسخها او توزيعها لأي سبب دون الموافقة المسبقة لصاحب البرنامج، يعتبر عملاً غير قانوني.
كادر:
أشارت بعض المصادر الى أن جهات دولية هددت وزير الاقتصاد بعدم ادخال لبنان الى منظمة التجارة العالمية، اذا لم يتم العمل على حماية الملكية الفكرية. ويقول الرائد ايلي بيطار، مدير مكتب جرائم المعلوماتية والملكية الفكرية، انه تم انشاء المكتب في شهر آذار من عام 2006، بسبب كثرة الانتهاكات والشكاوى من قبل الأفراد والمؤسسات، والتي كان يتم التحقيق فيها سابقاً بواسطة مكتب مكافحة جرائم المالية وتبييض الأموال. اضافة الى الجهود الدولية، واقتراحات العقيد منذر أيوبي – رئيس قسم مباحث الجنائية الخاصة، واهتمام اللواء المدير العام لقوى الأمن الداخلي أشرف ريفي والعميد قائد الشرطة القضائية أنور يحيى. ويعود السبب الأساسي برأيه الى الجرائم المستجدة في العالم، مما تطلب وجود مكتب مماثل لمواكبة التطور العالمي، والحد من المخالفات. ويعزو بيطار سبب تأخر انشائه الى الوضع الأمني في لبنان، الذي يؤدي بدوره الى شل تحركهم في الفترات التي تتقرر فيها المداهمات. وحتى اليوم، تم اتلاف حوالي 250000 CD على مرحلتين، الأولى بتاريخ 1/6/2006 والأخيرة في 18/1/2007. وتشمل عمليات المداهمة الأقراص المدمجة، أدوات التجميل، الكتب، الادوية، الثياب...الخ، ذلك وفقاً لشكوى تأتي بواسطة النيابة العامة، أو ضبط المخالف بالجرم المشهود، أو وفقاً لمعلومات. وتُصَادَر البضاعة على الفور بعد عملية المداهمة. ويتم ضبط المخالفين، والتحقيق معهم، ليحولون بعدها الى النيابة العامة. والنتيجة، اما التوقيف، او اطلاق سراحهم بسند اقامة.
تعليقات: