لم تعد المونة البلدية طقساً تراثياً يتناقله الأبناء عن الآباء. صعوبات الزراعة والتنقل، قديماً، كانت تفرض مثل هذه الطقوس. لكن الحياة المدنية باتت تسمح بابتياع أي صنف غذائي في أي وقت. رغم ذلك، لم تفقد «المونة» ألقها، بعدما تحوّلت تجارة مربحة تستهدف الميسورين
لم تذهب سدى المونة التي جهّزتها خديجة سويدان (عدشيت القصير ــــ قضاء مرجعيون) بين صيف 2005 وصيف 2006. الخبز المرقوق والعصائر والمربيات ومكدوس الباذنجان والخضر المجففة والزعتر والبرغل والألبان والأجبان (...) كانت طعام الأهالي الذين صمدوا في البلدة خلال عدوان تموز، و«زوادة» المقاومين الذين كانوا يتصدون للعدو الإسرائيلي. ورثت سويدان عادات أهلها بتخزين المواد الأولية. لا تشتري الطحين بالكيلو بل بالشوال. كما اعتادت أن تزرع الحقول المحيطة بمنزلها بالحبوب والخضر والفواكه لتوفر منها مؤونة للشتاء أو الحرب.
هذا «التكتيك» العفوي للأجداد كانت تحكمه صعوبة نمو الزرع البعلي والتنقل في أوقات الشتاء. على نحو تدريجي، تراجع «التكتيك» بعد توافر زراعة الخيم البلاستيكية. انصرفت نساء كثيرات عن تحضير المونة قبل أن تتحول إلى تجارة. سويدان صانعة ومصدّرة مونة إلى داخل لبنان والمهجر. قبل عام 2000، كان والداها لا يزالان على قيد الحياة. كانت تساعدهما في زراعة التبغ وإعداد المونة للأشقاء وعائلاتهم.
بعد وفاة الأهل، فاض الإنتاج. أعاد تحرير الجنوب أهل البلدة المقيمين في بيروت والمغتربين، ومعظم هؤلاء لا يزرعون بل يشترون المونة جاهزة.
تصوير: علي حشيشو
الحاجة لتوفير مصدر عيش دائم، جعل سويدان تبيع منتجاتها البيتية، حتى صارت علامة للجودة في المنطقة. على دفتر، تسجل الحجوزات ومواعيد تسلمها. ملوخية وزعتر للتصدير إلى كندا وخبز مرقوق وبرغل للتصدير المحلي إلى بيروت (...).
التجربة الفردية لسويدان، جماعية في حولا. التعاونية الزراعية أسست فريقاً نسائياً لتحضير المونة. بعد عدوان تموز، أنشأت «المركز النسائي للتصنيع الغذائي» لدعم إنتاج المونة البيتية بالتعاون مع مركز حولا الثقافي. يقر رئيس التعاونية هاني مصطفى أن التحرير «أدخل العادات المدنية إلى المنطقة المحررة وبات سكانها يسعون لتقليد الآخرين».
تصوير: علي حشيشو
ربط التصنيع الغذائي أو المونة البيتية بالمدخول المادي، شجع الكثيرات على الاحتفاظ بما ورثنه عن الأهل. بالتعاون مع جمعيات محلية ودولية، تلقت النساء تدريباً للحفاظ على سلامة الغذاء مع تطبيق الطرق التقليدية في صنعه. كثرت المنتجات فاحتدمت المنافسة لتقديم المذاق والجودة الأفضل، وانفتحت الأسواق أمام المنتجات. يشير مصطفى إلى أن تجاراً أردنيين يحجزون كميات كبيرة من الزعتر والفريك الحوليين كل عام.
اتحاد بلديات جبل عامل وضع الاستثمار الزراعي في سلم أولويات خطته التنموية في البلديات الحدودية الواقعة في نطاقه.
«الاكتفاء الذاتي هو الهدف المنشود من المشاريع التي ينفذها الاتحاد بالتعاون مع هيئات محلية ودولية» بحسب المهندس الزراعي في الاتحاد حسين جابر. في هذا الإطار، وزع الاتحاد على المهتمين شتول الزعتر مع الأسمدة والإرشادات التي يحتاجون لها ونفذ مشروع زراعة الخضر بالأنفاق البلاستيكية التي تنتج مواسم في بداية الصيف عندما يكون سعرها مرتفعاً. أما المشروع الأبرز فهو التشجيع على تربية الدواجن. إذ وزعت على كل راغب خمسون دجاجة تبيض يومياً بالحد الأدنى 40 بيضة، يوفر بيعها مورداً دائماً. فضلاً عن أن الدجاج يستهلك فضلات الطعام والخضر، ما يقلل من النفايات الناتجة عن كل بيت ويشجع على الفرز. يوضح جابر أن المغتربين هم زبائن المونة والمنتجات البلدية بالدرجة الأولى، يليهم المقيمون في المدن. حاجة أولئك وحنينهم إلى الماضي ورائحة أهاليهم، يرفعان من أسعارها، ما يفقد الكثيرين القدرة على شرائها.
* تصوير: علي حشيشو
تعليقات: