في العاشر من تموز 1964، وكنت أتولى إدارة التحرير في مجلة “الصياد”، استدعاني صاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ سعيد فريحة ليقول لي: استعد للسفر إلى بغداد،
أفرحني قراره الذي سيخرجني من سجن المكتب، وأعددت ملفاً خاصاً بي عن العراق بعد إسقاط عبد الكريم قاسم وتولي حزب البعث السلطة بالشراكة مع عبد السلام عارف.
لم أكن أعرف إلا قلة من العراقيين، بينهم الدكتور خير الدين حسيب، وبعض قياديي حزب البعث العراقي، ولو معرفة محدودة.
لم تصرف لي الإدارة إلا ليرات قليلة، وقيل لي: هذه رسالة إلى صاحب مكتبة المثنى في بغداد وسيعطيك ما يكفيك.
وصلت إلى بغداد مبهوراً: هذه عاصمة هارون الرشيد التي بناها الخليفة العباسي الأول أبو جعفر المنصور… مدينة دجلة والشعراء الكبار بعنون أبي نواس، مدينة الأمين والمأمون، وفيها “الملوية” و”المسقوف”.. وعلى مقربة منها برج بابل..
نزلت في فندق بغداد.. وانتبهت إلى أن الإداريين فيه وموظفي الاستقبال وحتى الحمالين من “الأشوريين”، وهذا معتمد ـ كما عرفت في ما بعد ـ في فنادق بغداد جميعاً.
كنت متشوقاً لرؤية نهر دجلة وهو يخترق بغداد لكن الفندق كان “في الداخل”، بعيداً عن مجرى نهر الخصب الذي بنيت بغداد وقد جعل في قلبها..
في اليوم التالي قصدت مكتبة المثنى، وهو مركز ثقافي يتلاقى فيها الأدباء والشعراء والكتاب الذين كنت أقرأ لبعضهم، فقابلت صاحبها وسلمته الرسالة فرحب بي، خصوصاً وأن “الصياد” كانت مقروءة في العراق.. وأعطاني مبلغاً من المال وهو يقول: “هلا بيك عيني، ويمكنك اتخاذ الدار مكتباً لك”.
ثم ساعدني في إجراء الاتصالات لتحديد مواعيد مع من أريد لقاءهم، مع نبذة عن كل منهم، وان بتحفظ، سرعان ما أدركت انه إسلوب يعتمده العراقيون جميعاً حول أهل السلطة.
كنت أقصد إلى مواعيد في إحدى سيارات التاكسي المتوقفة أمام باب الفندق..
وفي صباح اليوم الثالث جاء إلي موظف الإستقبال يقول: استاذ.. انت كل يوم تركب تاكسي من امام الفندق.. هذه غالية . أكو عند الزاوية تكسيات جيدة، ولو قديمة، وهي أرخص كثيراً..
غاب عني قليلاً وعاد إلي بسائق قصير وسمين وقال: هذا صبري .. وسيكون معك ليلاً نهاراً، وبأجر معقول.
***
بعد ثلاثة أيام من المواعيد المتعاقبة، التفت الى صبري ذات ليل اسأله: انت ما تشرب يا صبري؟
والتفت إلي وقد التمعت عيناه وقال مبتسماً: عيب استاذ.. ماكو عراقي ما يشرب.
طلبت اليه أن يحملني إلى مقهاه المفضل، فارتبك وقال: لا استاذ.. ما يجوز.
قلت: بل يجوز .. هيا بنا إليه..
تردد فأمرت، فقاد السيارة مرتبكاً.. وحين وصلنا إلى المقهى المقصود تقدمني مستكشفاً، ثم دعاني إلى الدخول وعيناه تجوبان المكان مدققة..
كان “البار” منخفضاً، والزبائن يقتعدون كراسي من القش واطئة، في حين يتوزع بعض الساهرين على ثلاث طاولات.. واختار صبري طاولة خلفها الجدار، وأمامها مباشرة الباب، وأجلسني وظهري إلى الحائط بينما جلس في وضعية الحارس المتنبه.
بعد وقت قليل دخل “زبون” جديد بالصاية العراقية والعباءة والكوفية الحمراء والعقال، والقى التحية وهو يجيل بصره بين الحضور، قبل أن يستدرك فيقول مشيراً إلى واحد من الساهرين: الا انت!.
وكانت هذه الكلمة آخر ما سمعت، فقد ارتمى علي صبري يحميني وهو يقول: أما قلت لك استاذ؟!
سحبني إلى الخارج، وأصعدني إلى السيارة، وانطلق يسابق الريح.
***
مرت سنوات… ثم كان ذات ليل، في بيروت حين التقيت “صبري” مرة أخرى ..
مع انتصاف الليل، وضمن طوابير الخارجين من قاعات السينما والمقاهي والمتجولين في ساحة البرج ـ سقى الله أيامها ـ كنت مع صديقين نقصد سياراتنا، حين سمعت من يهتف: استاذ، استاذ ..
لم أعرف انني المعني إلا حين اقترب الرجل القصير والسمين وعلى رأسه قبعة تزيد من غربته، فعرفته وهتفت: صبري؟!
قال: أي نعم، استاذ، أنا صبري..
ـ أهلاً منذ متى انت هنا؟ ولماذا لم تتصل؟!
قال صبري: لقد كنت في أمريكا، عند شقيقتي وصهري.. ولكنني لم استطع أن اتحمل أميركا، استاذ.. عليك أن تعمل هناك عشرين ساعة في اليوم..
قلت: حمد الله على السلامة.. وماذا تنوي؟
قال ضاحكاً: ماكو مكان أجمل من العراق، استاذ. أنا عائد إلى بغداد، إلى أهلي وبلادي.. هل رأيت أجمل من دجلة؟ وهل أكلت ما هو أشهى من المسقوف. إلى بغداد، استاذ، إلى وطني..
حييت في “صبري” وطنيته التي رفضت التأمرك، وودعته على أمل بلقاء جديد في بغداد.
***
كنت أكمل مهمتي بلقاء بعض المسؤولين من قادة البعثيين حينذاك، حين اتصل بي الأستاذ سعيد فريحة يطلب الي التوجه في أسرع وقت، إلى الإسكندرون (التي ضمتها تركيا اليها غصباً) للقاء صلاح الشيشكلي، شقيق أديب الشيشكلي “بطل” بعض الانقلابات العسكرية في سوريا، ورئيس الدولة قبل خلعه وسفره إلى البرازيل، حيث لحق به بعض أصحاب الثأر انتقاماً لبعض من أعدمهم، فقتلوه هناك..
وركبت طائرة البان أميركان، منتصف الليل، في الطريق إلى اسطنبول.
تعليقات: