نزل البلد عن شجرة الاستقالة، وتريّث الرئيس سعد الحريري، في تقديمها، ولكن من دون أن يحدد سقفاً زمنياً لهذا التريّث.
ربط الحريري تريّثه وعدم الذهاب الى الاستقالة، بالاستجابة لتمنّي رئيس الجمهورية عليه، وبإعطاء فرصة لمعالجة الأسباب الدافعة الى هذه الاستقالة.
والواضح انّ قرار الحريري هذا يحظى بمباركة دولية شاملة، وكما تكشف معلومات ديبلوماسية، فإنّ هذا الدعم الدولي الواسع فرض على أطراف
إقليمية إعادة تقييم لمواقفهم التي واكبت أزمة الاستقالة، خصوصاً انّ القراءة الدولية لِما حصل أظهرت ما يلي:
أولاً، انّ هذه الاطراف لم تُحسن قراءة موازين القوى في المنطقة، وحقيقة التحولات التي تشهدها في اكثر من ميدان، وتحديداً في سوريا والعراق. والتي، أي التحولات، فَرضتها إرادة قوى إقليمية وازِنة مدعومة بغطاء روسي صَلب، بدأ يؤتي ثماره بالأمس في سوتشي.
ثانياً، انّ هذه الاطراف أخطأت في قراءة موازين القوى في لبنان، وأساءت تقدير الموقف اللبناني، فاصطدم أداؤها الذي واكَب إعلان استقالة الرئيس الحريري من الرياض، بجَو التضامن اللبناني المفاجىء، وبأداء رئاسي قرر السير في كل الاتجاهات وحتى لو اضطرّ الأمر نحو مجلس الامن لاستعادة رئيس الحكومة، وبحقيقة انّ الانتقال بهذا البلد الى ساحة توتر واشتباك، دونه افتقاد القدرة على ذلك.
وافتقاد الادوات الحامية لهذا الانتقال، ودونه ايضاً الموقف الاميركي الذي جرى التأكيد عليه امام اللبنانيين وكذلك امام مسؤولين عرب كبار، بما مفاده انّ واشنطن لن تسمح لأحد بإطاحة الاستقرار اللبناني لأيّ سبب كان، ذلك انّ إطاحة هذا الاستقرار في وقت يشعر «حزب الله» أنه يحقق انتصارات ميدانية في الاقليم، معناها دفع الحزب الى الإمساك بالبلد.
ثالثاً، انّ هذه الاطراف أخطأت في مقاربة التسوية السياسية الحاكمة للوضع اللبناني، وفي الإفصاح عن نوايا في تعديلها او نسفها، في وقت انّ هذه التسوية وكما أفادت العماد ميشال عون وفريقه وأوصَلته الى رئاسة الجمهورية، أفادت ايضاً الرئيس الحريري وأوصَلته الى رئاسة الحكومة.
إذاً، الفائدة مشتركة، وأيّ إخلال بالتسوية سيكون على حساب من يَخلّ بها. وكذلك على البلد، حيث اذا ما فَرطَت هذه التسوية سيتعذّر الوصول بسهولة الى تسوية جديدة تؤدي الى الترحّم على التسوية الحالية.
في أيّ حال، خرج الحريري من قفص الاستقالة الى ساحة التريّث، وكان لقراره هذا وَقعه الايجابي داخلياً، والتَرييحي للمناخ العام في البلد؛ كان متوقعاً من قبل عدد محدود جداً من السياسيين، عَملَ، وما يزال في اتجاه احتواء استقالة الحريري وتداعياتها اللبنانية والعربية والخليجية منها على وجه الخصوص.
وذلك بالتعاون والتنسيق، أو بالتقاطع مع بعض العواصم العربية والغربية المؤثرة والصديقة للبنان، وفي مقدمها باريس والقاهرة. وتسلّح هذا العدد المحدود من السياسيين بدعم دولي، واحتضان داخلي لم يسبق أن شهد لبنان مثيلاً له من قبل. بل انّه، أي التريّث، كان مفاجئاً للشريحة الواسعة من اللبنانيين، التي كانت مسكونة بهاجس الانتقال الى أزمة داخلية مفتوحة على كل الاثمان وشتّى الاحتمالات السلبية.
إلّا انه في المقابل، جاء صادِماً لمجموعة راهنت على انقلاب المشهد رأساً على عقب، تطير فيه رؤوس وزعامات وتَجيء مكانها زعامات بديلة. وأولى الضحايا المحددة لانقلاب هذا المشهد، الحكومة ورئيسها على وجه الخصوص.
وثمّة صدمة ثانية لهؤلاء تَجلّت في ما يُحكى عن «عملية جراحية» تجري بعيداً عن الاضواء والضجيج والاعلام، داخل أحد التيارات السياسية لإعادة ضَخ الدم في بعض الشرايين السياسيّة التي «نَشّفت» منذ اللحظة الاولى لتلاوة بيان الاستقالة من الرياض، ولمحاولة فرز ألوان صورة ما بعد عودة الحريري وتريّثه وإعادة تجميعها على نحو مُغاير لِما كانت عليه في 4 تشرين الثاني 2017. وفَصل مَن كان مع، عَمّن كان ضد، والشامتين عن المتضامنين، والحفّارين النافِخين في نار الاستقالة، عن رادِمي الحفَر والإطفائيين.
وأهمّ من كل ذلك فَصل الصديق المَصلحي عن الصديق الصديق الذي ظهر في وقت الضيق. وعلى ما يبدو انّ هذه العملية لن تستغرق وقتاً طويلاً، فالجرّاحون العاملون فيها يؤكدون انّ نتائجها ستخبّر عن نفسها حينما تبدأ في الظهور في القريب العاجل، وكثيرون ممّن رَقّتهم الظروف السياسية وغير السياسية الى رتبة «صديق»، ستُنزَع منهم هذه الرتبة.
كل ذلك، يسير بالتوازي مع ورشة سياسية جدية، بدأت ويُراد منها تحصين «التريّث»، الذي يُقرأ فيه «مَحواً» لبيان استقالة الرياض. والهدف الاساس لهذه الورشة هو جعل تريّث الحريري نقطة تأسيس لبناء سياسي داخلي أكثر صلابة ممّا كان عليه قبل سبت الاستقالة في 4 تشرين الثاني.
المطبخ الداخلي للورشة شَغّال بكل طاقته، وثمّة «دَرزات» بُدئ بحياكتها بين المقرات الرئاسية من عين التينة الى بعبدا الى بيت الوسط، لعلّها تصل الى الخاتمة المرجوّة منها، أي إنزال لبنان نهائياً عن شجرة الأزمة. وأمّا العنوان الأساس المتّفَق عليه، فهو «النأي بالنفس»، إنما على قاعدة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم».
وعملية الحياكة هذه، مُنطلقة من نقطة الحد او منع التدخل في الازمات والصراعات، وتتوزّع على أربعة طوابق:
• الأول، الطابق العراقي، وما يُحكى عن دور وحضور لـ»حزب الله» فيه. هذا الطابق بات، بعد التطورات العسكرية وهزيمة «داعش» فيه، محكوماً بليونة سَبق ان عبّر عنها الامين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله بقوله انّ مهمة الحزب في العراق قد أُنجزت... مُلمّحاً الى إجراءات ستتخَذ حيال وجود قيادات وكوادر الحزب في العراق، ما يعني سحبها، وبالتالي قد لا يشكل هذا الطابق مشكلة.
• الثاني، الطابق اليمني، وهذه مسألة دقيقة جداً، وتكاد تكون السبب الاساسي لاندلاع الازمة الراهنة من شرارة الاستقالة. هنا، يُراد للحزب ان يكون خارج اليمن ولا يتدخّل فيه، وهنا ثمة ما يجري بَحثه وصياغته على نحو يخدم الورشة القائمة، إنسجاماً مع ما سبق وأعلنه السيد نصرالله من انّ «حزب الله» لم يرسل ايّ سلاح الى اليمن او البحرين او الكويت او العراق، ولا لأيّ بلد عربي سوى فلسطين وسوريا.
• الثالث، الطابق السوري، هنا الحياكة الجارية تنطلق من انّ الجميع تدخلوا في سوريا، كلّ في إطار مصلحته وما يزال. وكما انّ خروج خصوم «حزب الله» من سوريا هو صعب عليهم لا بل مستحيل في ظل الوضع الدقيق الذي بلغته الازمة السياسية والتطورات والتبدلات الميدانية التي حصلت، كذلك هو الحال بالنسبة الى الحزب، الذي لا يخرج منها، من طرف واحد، خصوصاً انه يشعر انه في موقع المتقدّم، وصار عضواً غير مُعلن، على طاولة المفاوضات، من جنيف الى استانا وصولاً الى سوتشي، ما يعني انّ المطالبة بخروجه من سوريا غير قابلة للتحقيق.
ولعل الفكرة الأكثر تداولاً في عزّ الورشة، تقترح على اللبنانيين مجدداً إعادة إحياء القاعدة القائلة: فلنترك خلافاتنا في لبنان جانباً، ولنتقاتل في سوريا. وهي فكرة قابلة للتنفيذ.
• الرابع، طابق السلاح، وهو الطابق الأكثر تعقيداً. وما يُقال حول هذا الطابق، ينطلق من انّ اسرائيل لم تستطع، وكل العالم لم يستطع ان ينزع سلاح «الحزب» او أن يحرّكه من مكانه. وهناك فكرة متجددة تقول «فلنتجاوَز هذا المطلب لأنه يُتعب المطالِبَ به، لأنه كلام بلا اي طائل، هذا فضلاً عن انّ «حزب الله» لن يقدّم سلاحه هديّة لأيّ طرف عربي او غير عربي.
وعلى ما يبدو من النقاش حول هذا الطابق، انّ ثمّة تسليماً بهذا الامر من قبل فرقاء أساسيين في الداخل، وبالتالي قد لا يشكّل هذا الامر عقدة، او مانعاً من تحصين التريّث والانتقال به الى ما هو أحسن.
هنا يبرز السؤال: هل ستحمل الايام المقبلة إيجابيات؟
الجو الرئاسي العام متفائل، الرئيس نبيه بري يقول انّ الشغل ماشي وجَدّي، وحتى الآن تجاوَزنا 90 في المئة من القطوع. ومع ذلك تبقى الأمور في خواتيمها.
تعليقات: