د. عزالدين المناصرة
صدر حديثا في دمشق، عن (دار كنعان للدراسات والنشر)، كتاب نقدي جديد للناقد السوري (الدكتور عصام شرتح)، بعنوان: (المكون الجمالي في قصائد عز الدين المناصرة). ويقع الكتاب في (275صفحة)، مشتملا على ثلاثة فصول وخاتمة:
1- الفصل الأول: جماليات اللغة الشعرية عند عز الدين المناصرة.
2- الفصل الثاني: ثراء المرجعية الشعرية عند عز الدين المناصرة.
3- الفصل الثالث: مفاتيح نصية مهمة في شعر عز الدين المناصرة.
******
وقد توصل الناقد الدكتور عصام شرتح إلى النتائج والاستدلالات العامة في كتابه حول (شاعرية المناصرة ومفاتيحها) على النحو التالي:
أولاً: إن جمالية اللغة في (القصيدة المناصرية) تنبع من فاعلية مشتقاتها اللغوية المبتكرة، وقدرة الكلمة على التفاعل مع سياقها النصي الجديد من خلال تجسيد الرؤيا وفنية وقدرتها على التعبير عن مشاعر وحالات نفسية عميقة تستبطنها التجربة الشعرية في مسارها النصي.
ثانياً: إن درجة فاعلية الجملة الشعرية لغوياًَ لدى (المناصرة) تنبع من إحداثياتها الشعورية ودرجة انزياحها في مسارها النصي، فبمقدار ما تنزاح الجملة عن نسقها اللغوي وهذا دليل أن (المناصرة) اكسب لغته الشعرية مخزوناً ثقافياً موروثياً تارة وحداثياً تارة أخرى، فكان مجدداً في النسق اللغوي والتمظهرات اللغوية المبتكرة من جهة، وكان تراثياً من حيث اعتماد الشخصيات المعهودة واسطرتها بإضفاء صفات جديدة أو ملامح جديدة مكتسبة عليها، من جهة ثانية فإن نظرت إلى (المناصرة) من ناحية التجذر الإبداعي التوازي وجدته تراثياً، وإن نظرت من الجانب الآخر الحداثي وجدته مجدداً في أدواته وتقنياته الفنية.
ثالثاً: لقد استطاع (المناصرة) بوصفه ناقداً حداثياً من الطراز الرفيع أن يرتقي بقصيدته إبداعياً، فلم يترك تقنية نصية إبداعية إلا ووظفها في قصائده، ( رغم عفويته النصية) فهو بانفتاحه على المذاهب الأدبية والتجارب الغربية في نطاق اختصاصه في (الأدب المقارن) أغنى حركة نصوصه بتقنيات لم تعهدها بنية القصيدة الحداثية على هذه الشاكلة من التميز والإبداع كما لاحظناها عند (المناصرة)، فكأننا من نتاجها (تقنية التوازي والتناظر والتضاد والأنسنة والتجريد والتشخيص والمونتاج السينمائي) وغيرها.
رابعاً: إن طغيان (الروح الثورية) على قصائده انعكس كذلك على مستواها اللغوي، فاللغة الثورية بحاجة إلى روح ثورية والشاعر انطلق من هذه الزاوية لتخليق شعريته، فالشاعر إن لم يكن ملتزماً بقضايا أمته، مؤمناً بأهدافها، واعياً بمؤثراتها ومتأثراتها لن يرقى بلغته الثورية، وإحساسه الثوري، ولن يكون شاعراً ثورياً بامتياز يقول (المناصرة): " المعرفة لا تكفي، فالشعراء غير الثوريين يعرفون أيضاً، وربما أكثر من غيرهم، لكنهم لا يستخدمون معرفتهم باتجاهها الصحيح إذا ما تناقضت مع براجماتيتهم المضادة للثورة والتطور والتحديث". والشاعر الحداثي الأصيل ثوري في الداخل والخارج، ثوري في الإحساس وعمق الشعور، وثوري في اللغة وتمظهراتها الفنية الخلاقة فالمعرفة وحدها لا تكفي لأنها بحاجة إلى إحساس، وبحاجة إلى روح إبداعية نابضة بهذا الإحساس، وتترجم هذا الإحساس لغة رؤيا وحداثية بتعبير. وهذا ما حققه (المناصرة) بمهارة واقتدار.
خامساً: إن من أبرز مثيرات اللغة الشعرية ومستحدثاتها المبتكرة أنها تعتمد (مونتاجيه الصورة، والمشهدية الترسيمية) في رصد الأحداث والتفاصيل، وأسطرة الحدث اليومي بلغة بسيطة مأنوسة، مما يكسب القصيدة- لديه- طاقة إضافية من الإيحاء والتأثير لهذا حاول (المناصرة) أن (يخلق الصورة-الحركة -أو الصورة الحية (المؤنسنة) لتحقيق أكبر قدر ممكن من الفاعلية والمرونة والخصوبة في تلقي نصوصه تلقياً إبداعياً، وهذا ما يحسب له على مستوى اللغة والوعي بإحداثياتها الفنية المؤثرة، ولهذا، قلما نلحظ ترهلاً في أسلوبه وانكساراً في شعرية الجملة أو خلخلة في انساقها، وهذه الميزة هي ميزة الإبداع الشعري الأصيل.
سادساً: إن (المرجعية الشعرية) -في قصائد (عز الدين المناصرة) –مرجعية ثقافية معرفية ثرة، فهي غنية بالمثيرات البيئية والمثيولوجية، وهي تنهل من معين لا ينضب من الفكر التأملي والحس الوجودي بالتاريخ والأحداث، وتوظيفها بالشكل الإبداعي المميز والطاقة الفنية الخلاقة.
سابعاً: إن المرجعية الشعرية -عند (المناصرة) –(مرجعية جمالية) تحاول أن تؤسس النص الجمالي، وجمالية النص- لدية –لا تتخلق من توليفاته المنسجمة المتناغمة، وإنما من جدلياته المتوترة الصاخبة التي تصنع قرارها من احتدامها الشعوري المعتمر في قرارة ذاته الداخلية فهو لا يفتعل الجملة افتعالا شاعرياً، وإنما تأتي الشاعرية منسابة من صميم الرؤية وشفافية التعبير، ولهذا تمتاز قصائده بالخصوبة الجمالية والحس الشاعري المرهف الذي ينأى عن التكليف والتعقيد.
ثامناً: إن منابع مرجعية المناصرة الشعرية متنوعة وخصبة، فهي مرجعية إبداعية، ومرجعية فنية ومرجعية بيئية ومرجعية ثقافية موروثية مكتسبة، وباختصار: إن كل هذه المرجعيات حصيلة رؤى ومعارف ومؤثرات وخبرات وثقافات متنوعة وتجارب خصبة جسدها (المناصرة) في تشكيلاته اللغوية ومنابعها الأصيلة.
تاسعاً: إن منابع مرجعية المناصرة الرئيسية هي منابع لغوية، فالشاعر يمتلك معجماً لغوياً شعرياً زاخراً بالمفردات الجديدة وغنياً بالمصطلحات والأسماء الأجنبية أو المشتقة من البيئات الأخرى، فهو شاعر قاموسي وقاموسه الشعري غني جداً بالمسميات والمشتقات الجديدة، وهذا ما يحسب له في قاموسه الشعري ولغته الشعرية في شكلها العام.
عاشراً: لا يختلف اثنان أن المرجعية الشعرية -عند المناصرة –(مرجعية فنية) قادرة على إثاره المتلقي بالشكل البنائي الخاص والتشكيل البصري لقصائده، فهو يتلاعب بالشكل الخطي بصرياً ليثير المتلقي إلى مكمن الإثارة العمق بالشكل الكتابي البصري قبل الشكل الفني أو اللغوي، وهذا ما يثير قصائده على المستوى التشكيلي او الكتابي.
*******
ويخلص المؤلف (عصام شرتح)، بعد هذه الدراسة التمحيصية في شعر عز الدين المناصرة إلى النتائج التالية:
1- حفلت القصيدة الشعرية –عند المناصرة –ببنائها الفني المميز، وطابعها الإبداعي الخاص، فهي تثير ( الرموز التاريخية) وتتفاعل معها، ولهذا حرصت قصائده على أسطره رموزها وشخصياتها التاريخية، وتفعيلها بجرأة فنية ونبض إيحائي شاعري، باختصار شديد: إنه يحرك الشخصية التاريخية من العمق ويكشف عن دورها التاريخي ودورها الفني، وهذا يعني أنه يتلاعب بالشخصية التاريخية بما يتطلبه السياق والموقف الشعري الجديد، أي أنه يعيد تشكيل الشخصية بمنظور مغاير ومعنى رؤيوي جديد، دون أن نعدم قوة الحضور وبلاغة المعنى الذي يثيره الاستحضار.
2- إن روح (الحداثة والشعرية) طاغية على آفاق رؤاه الشعرية وتشكيلاتها الفنية، وهذا دليل وعي فني بأن الشعرية مباغته واقتناص رؤى جديدة ومنظورات مغايرة، وهذا ما حاولت قصائده أن تقوله في صميم رؤيتها ومعناها العميق، لذلك سيطرت الشعرية على التشكيلات الأسلوبية أو الأشكال التصويرية المشهدية الملتقطة، وتولدت الدلالات المعاصرة من قدرته على تفعيل الرؤية، وتعزيزها بالرموز الأسطورية، وتحميلها من الدلالات ما لا تحتمل.
3- إن غنى قصائدة ( بالملامح الجمالية) ليس وليد مصادفة أو وليد شعور عاطفي آني أو مستهلك أو سطحي التأثير، وإنما وليد نفس مشبعة بالحساسية الجمالية والخبرة الإبداعية، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه (تراثي اللغة، حداثوي الاستعمال)، سريع الإثارة، وإثارته تتبثق من الدلالات المضمرة أو المختزنة في السطح اللغوي، والقافية المموسقة التي تترك صداها المثير أو المنسجم مع دفق اللغة وبساطة التعبير، وبمعنى آخر: تنبع شعرية اللغة من عصارة روحه وعمق تجربته الشعرية، ولهذا، فإن اللغة لديه مطواعة مشبعة (بالفيوضات الجمالية) التي يقتنصها من التراث الشعبي الفلسطيني والروح الحية من هذا التراث.
4- إن روح ( المنفى والنفي) تكاد تكون السمة الغالبة على قصائده، فقصائده تفيض بروح الالتزام بالقضية والتمسك بالعودة، فهو ليس كغيره من الشعراء الفلسطينيين يندب الوطن ويعيش سذاجة المأساة في لحظة انفعالية آنية دون عمق أو حدة رؤيا، وإنما يؤسس الرؤية الشاملة ويخلق ( الموقف الثوري)، ويعيشه حقيقة ولا يتخذه قناعاً، لهذا فإنه يعيش القضية التزاماً وهماً وطنياً لا رؤية مقنعة، وقصيدته المشهورة ( بالأخضر كفناه) خير دليل على ذلك، فهو يوظف التراث الشعبي ويعيش مناخاته وزيه في كل قصيدة من قصائده، دلألة على بلاغة التمثل وتيار الالتزام.
5- إن ولع المناصرة بالأماكن و (نكهة الأمكنة) يعود إلى تعلقه -كما ذكرنا سابقاً -بالتراث الشعبي الفلسطيني، ولهذا فإن قصائده (سراج العشاق) و(دموع الكنعانيات) هي عودة لهذا التراث بحثاً عن روح المعاصرة، فهو لا يوظف التراث بسكونيته وزمنه الماضوي المحنط، وإنما يوظف التراث بعين حداثوية تعي الحقائق وتقترح الحلول، وتستشرف آفاق المستقبل بروح تفاؤلية لا يحيد عنها، وهذا ما يجعله يكثر في قصائده من اللعب بالمتضادات والجدليات رداً على واقعه الموبوء المتفسخ الذي يسبح في بحر التيه والضياع ونسيان القضية.
6- إن القامة السامقة التي يمتلكها (المناصرة) بوأته أن يحتل الصدارة في تفعيل الرموز الأسطورية والتاريخية واستلهاماً لها بالشكل الفني المثير، والقوة البلاغية المؤثرة في توجيه الرؤية وإصابة مرماها الفني، وهذا ما جعله يعي الدور الفني للموروث ويوظفه بالشكل الإبداعية، وهذا ما يحسب لها ويجعله أنه (مؤسس شعرية الكنعنة)، حيث أعاد الاعتبار شعرياً، لعنصر (الكنعنة) في الهوية الفلسطينية -وفكرياً في كتابه (فلسطين الكنعانية -قراءة جديدة في تاريخ فلسطين القديم، عمان 2009). كذلك هو (مؤسس شعرية التوقيعة)، و (شعرية الهوامش) وغيرها، مما لم نتناوله في هذه الدراسة. كذلك كان الثلاثي: (عز الدين المناصرة، محمود درويش، وفدوى طوقان)، هم أول من اقترح تأسيس (اليوم العالمي للشعر) على (اليونسكو الدولية)، عام (1997) في باريس، وساندتهم عام (1998) (اللجنة الوطنية المغربية).
- وقد استطاع (المناصرة) أن يصبح أحد (نجوم الشعر العربي الحديث)، وأن يصبح (ناقدا من الطراز الأول)، وله بصمتان واضحتان في (الشعر والنقد معاً).
تعليقات: