كشف الاجتماع الأخير لجامعة الدول العربية، بناء لطلب عاجل من المملكة العربية السعودية في شكوى تظلم من “التدخل الايراني في الشؤون العربية” عن تبدل جذري في دور الجامعة..
لقد تحولت من “مؤسسة جامعة” ومنبر قومي لتأكيد اجتماع الدول العربية حول مشروع وحدة الموقف ووحدة القرار العربي، (واساساً ضد العدو الاسرائيلي وقوى الهيمنة الغربية)، إلى منصة للأغنى يستخدمها ضد الافقر من الدول الاعضاء (قطر تطرد سوريا!) او السعودية تسخرها للهجوم على إيران مستهدفة، بالأساس “حزب الله” في لبنان.
تبارى الخطباء وهم يرفعون أيديهم من خلال عباءاتهم المذهبة بإشارات التهديد والوعيد، السعودي والبحريني والجيبوتي ومندوب جزر القمر الخ، ولم يتركوا افتراء او تلفيقاً او ادعاءً كاذباً الا ووجهوه إلى التنظيم الوحيد الذي قاتل العدو الاسرائيلي، مرة ومرتين وثلاثاً، فهزمه وأجلى قوات احتلال عن الوطن الصغير.
لم يتذكر الخطباء الحرب الباغية على اليمن، وهي جريمة ابادة بحق البشر والعمران في واحد من أعرق البلاد العربية عروبة وحضارة.
ولا هم تذكروا الدور القذر الذي لعبته السعودية ومعها بعض دول الخليج في سوريا (وفي العراق)، ومحاولات اثارة الفتنة بين المسلمين خدمة لمشروع الهيمنة الاميركية والاحتلال الاسرائيلي في فلسطين..
ولا هم تذكروا، بشكل خاص، احتجاز المملكة العربية السعودية، لرئيس حكومة لبنان سعد الدين رفيق الحريري، واجباره على تقديم استقالته عبر مقابلة تحت رقابتهم، وعبر محطة تلفزيون تابعة لهم مباشرة “العربية”، بعدما استدعوه إلى الرياض من دون سابق انذار وألزموه بقراءة نص كتبوه، واحتجزوه مع عائلته لعشرة ايام طويلة… ثم لم يفرجوا عنه الا بوساطة فرنسية حازمة، استدعت أن يبدل الرئيس الفرنسي في برنامج رحلته إلى ابو ظبي لافتتاح تفريعة لمتحف اللوفر فيها، فيهبط في الرياض، ويتمنى على ولي العهد والحاكم الفعلي للسعودية الامير محمد بن سلمان أن يفرج عن “رهينته” رئيس الحكومة في بلد آخر (شقيق) .. ثم أن يوفد وزير خارجية فرنسا “لبحث التفاصيل”، قبل أن يُسمح للرئيس الحريري بالسفر مع زوجته، ومن دون ولديه، إلى باريس لكي يكرمه الرئيس الفرنسي ماكرون بحفاوة استثنائية ويستضيفه إلى مائدة غداء عائلية في قصر الاليزيه..
الطريف أن مملكة الصمت الابيض والذهب الاسود هي من طلب هذا الاجتماع الطارئ لجامعة الدول العربية، وهي التي شكت اليها التدخل الايراني في الشؤون العربية الداخلية، في حين أن الحملة داخل الاجتماع تركزت على “حزب الله” وتدخلاته الحربية على امتداد المشرق العربي من لبنان إلى اليمن..
ولقد شارك في هذا الهجوم القاسي كل “الدول” المرتهنة للسعودية وذهبها… ثم انفض الاجتماع الخطير ببيان يندد بالتدخل الايراني في الشؤون العربية، مع مرور على دور “حزب الله” التخريبي في المشرق جميعاً، وربما في المغرب العربي أيضاً..
هكذا تكون السعودية، ومن معها من الدول التابعة، قد وجهت ضربة قاضية إلى هذه الجامعة التي صدعتها ـ بداية ـ الخطيئة المميتة للرئيس المصري الراحل انور السادات بزيارته دولة العدو الاسرائيلي ومصالحتها على دماء الجيشين العربيين المصري والسوري، كما على دماء شهداء الاحتلال الاسرائيلي من ابناء فلسطين وسوريا ومصر ولبنان والعراق والاردن والجزائر وليبيا والمغرب الذين شاركوا في قتالها لإجلائها عن الاراضي المحتلة في الاعوام 1948 ـ 1956 ـ 1967 ثم 1973… ثم على امتداد الثمانينات والتسعينات حتى ايار العام 2000 لإجلائها عن لبنان، ثم في 2006 لإلحاق الهزيمة بها في حرب تموز ـ اب.
لقد وجهت السعودية ضربة قاسية إلى الاستقرار في لبنان، وهتكت الاعراف الدولية والاصول المعتمدة بين الدول باحتجاز رئيس حكومة في دولة أخرى (بغض النظر عن كونه يحمل جنسيتها) لمدة تقارب الاسبوعين من دون أي تفسير، ثم تركته بناء لشفاعة دولة اجنبية ـ فرنسا ـ وليس بسبب من “نهوض” جامعة الدول العربية لنجدة “الرئيس المحتجز”، واستمرت في استرهان عائلته..
لم نسمع أن الجامعة العربية قد تحركت فاستنكرت او احتجت ولو عبر بيان، او حتى عبر مداخلة في اجتماعها الطارئ لبحث شكوى السعودية ضد ايران… بل أن امينها العام البائس، ابو الغيط الذي جاء إلى بيروت، بعد يوم واحد، ولأسباب لا علاقة لها باحتجاز الحريري في السعودية حاول تبرير البيان القاسي إلى حد الفظاظة ضد ايران، بانه لا يستهدف “حزب الله” ودوره في مقاومة العدو الاسرائيلي وتحرير لبنان.
في الامثال الفرنسية واحد يقول ما ترجمته: “من يعطي يأمر”..
ولكن هذه الخطيئة السعودية التي تضرب الاخوة العربية في الصميم، وتخرق الاصول الدبلوماسية (فضلاً عن موجبات الضيافة التي تحولت إلى اختطاف الضيف واسترهانه واذلال دولته)، لا يمكن أن تبشر بمستقبل باهر لولي العهد ـ صاحب الخطة الاميركية التي تعد بدخول العصر بنهوض شامل واحترام لحقوق الانسان.
الاهم: أن هذه الخطيئة تنتهك وتسقط ارضا كل ما يحكى ويكتب عن الاخوة العربية، اذ يبدو أن الجلافة البدوية هي الاعمق تأثيراً على “الملك الجديد” الذي خلع وليين للعهد من اهله الاقربين واحتجز رئيس لحكومة لبنان في الدولة التي يحمل علمها الشعار الاسلامي مجللاً بالسيف واسم الجلالة.
تعليقات: