المفارقة هي في إفشاء هذا الموقع، في هذا الوقت، رغم جهل صاحبه بالتكنولوجيا الحديثة، على ما في ذلك من مفارقة، بسبب ماضيه الهندسي وانتقاله مع الأيام الى الدراسات في العلوم الإنسانية. المفارقة هي أن المنطقة تغلي بالحروب الأهلية النابعة من أيديولوجيات دينية خاطئة، ومشاعر منحرفة، لدى الأطراف. هذا في وقت تقهقه فيه الأنظمة لبقائها بعد ثورة 2011 التي زعزعزت الكيانات العربية؛ لكن الثورة المضادة انتصرت. هذه الأنظمة ومن ورائها تتقاتل صراعاً على السلطة. وقودها الفقراء. أحد أهم الأسئلة التي تطرح نفسها علينا هو لماذا يقاتل الفقراء ويموتون من أجل الأغنياء في السلطة وخارجها؟ لماذا يعتنقون أفكاراً هي ضد وجودهم؟ في أحسن الأحوال، هم موجودون كي يكونوا أدوات.
لا بدّ للمرء الذي يكتب ويفكر أن يشارك فيما يجري، لا ليأخذ موقفاً مع أحد الأطراف المتصارعة أو المتقاتلة، بل مع الشعب المغيّب عن المعركة، والذي يدفع الثمن في كل الأحيان. القتل، والتهجير، والتدمير، والتطهير العرقي والمذهبي، كل ذلك يعانيه الناس؛ أما قادة الصراع فهم يسرحون في غيّهم.
نسميها ثورة 2011، ليس فقط الربيع العربي، عندما احتلت الجماهير العربية الميادين في أواخر 2010 وأوائل 2011، في تونس ثم مصر، وتبعتها بقية الشعوب العربية. بعض الأنظمة سقطت، وفي بعضها رشا الحكام شعبهم، وفي بعضها بقي الناس في الشارع لأشهر، وحتى سنة كاملة، ولم يحدث أي من أعمال العنف رغم توفّر السلاح بعشرات ملايين القطع الحربية. وفي بعضها اختارت الأنظمة أن تضع السلاح قسراً بيد الجمهور رغم الإصرار على السلمية. كل ذلك بهدف تحويل الثورات الى حروب أهلية. لنتذكّر أنه في الحرب الأهلية الدامية في تسعينات القرن العشرين في الجزائر لم تكن هناك صراعات مذهبية. لم يكن هناك تعدد مذاهب. ولم تكن الحرب الأهلية إثنية رغم اختلاف الإثنيات.
لكن غضب الشعوب العربية كان جارفاً، وذلك منذ عقود من الزمن. وكان ضرورياً أن تحدث الحرب الأهلية وفي الجزائر، ربما كتجربة لما سيجري في البلدان العربية الأخرى. كانت الثورة المضادة تحضّر نفسها لما سوف تفعله بعد اندلاع الثورات الشعبية الشاملة في أنحاء الوطن العربي.
هذه المنطقة العربية هي الأهم في العالم في الوقت الحالي. ما يجري فيها هو حرب عالمية تشترك فيها جيوش الدول الكبرى والقوى الاقليمية. يختلف جميعهم في الأسباب والوسائل التي يستخدمونها. لكنهم يتفقون جميعاً على أن هذه الشعوب العربية لن يُسمح لها بحياة سوية.
في خضم هذه المعمعة سيكون ضرباً من الدون كيشوتية الادعاء بأننا نكتب لنواجه قوى الثورة المضادة بكل ما تعنيه من سلاح ووسائل دعائية وإعلامية، وتشنجات مذهبية وقومية وإثنية. لكن الأمر غير ذلك بالنسبة لنا نحن الذين ندعو الى كلمة سواء. سنبقى مع العقلانية، ومع ما يُسمى الاعتدال (دون أن يشمل ذلك انحيازنا المطلق لصالح الشعوب المهمشة والمذبوحة، والتي لا تنظر إليها المنظومة الحاكمة إلا كأدوات لتأجيج الآتون).
معظم الدول العربية، إن لم تكن كلها، فاقدة الشرعية بسبب انفصالها عن شعوبها طبقياً وفئوياً. هي أنظمة حكم لا دول؛ أنظمة مجهزة بكل أجهزة القمع، والظلم، ووسائل الإفقار. تقتطع من ثروة شعوبها، ومن عمل شعوبها، وما تريد وما يفوق الذي تحتاجه لتزوّد نفسها بأجهزة القمع. الدولة الحديثة تكون حيث تحوز رضى شعبها وتنغرز في ضمير مواطنيها. لا دولة حيث لا يشارك الأفراد كمواطنين في الدولة. تتحوّل الدولة الى نظام، مجرد نظام، للقمع عندما تفقد رضى شعبها؛ بالمقابل يتحوّل النظام الى الدولة عندما يكتسب الشرعية الشعبية. شرعية انتماء الناس الى الدولة باعتبارهم مواطنين مشاركين في السلطة السياسية. المشاركة تكون في الحوار والنقاش، أي السياسة؛ وفي المجال العام وهذا محجوب في معظم الأنظمة العربية. يقمع الناس في مجالهم الخاص لحماية أنفسهم من القمع. يتقلّص المجال العام؛ يخصخص المجال العام، قبل أو بالتوازي، مع خصخصة الممتلكات العامة.
في المنطقة العربية، يأخذ الصراع منحى إضافياً هو انتشار النيوليبرالية، وصعود الدين السياسي في وقت واحد، منذ العام 1980 تقريباً. تلتقي الحركتان في الزعم أن المصير البشري يتقرر خارج الإرادة الإنسانية. القرار بزعمهما هو للمال في زمن الرأسمال المالي، وهو للسماء في زمن صعود الدين السياسي. الرأسمال المالي صادره كبار الرأسماليين. إرادة الله صادرها قادة الدين السياسي. وأحدهما يبرر للآخر ايديولوجياً.
الأخطار الأخرى التي تهدد وجود المجتمعات العربية والأمة العربية هي أكثر من كارثية، خاصة فيما يتعلّق بتوسع الصحراء في وقت يزداد عدد السكان بكثرة. الى جانب مشكلة التصحّر، هناك الأنهار الكبرى التي تزودنا بالمياه. منابعها موجودة في بلدان مجاورة تبني عليها عشرات السدود. ربما أدت ندرة الماء الى مزيد من التصحّر والى أن يصير ليتر النفط أقل ثمناً من ليتر المياه. أما التصحّر الثقافي (التربوي) والهجوم على اللغة العربية فالكلام يطول.
مطروح علينا سؤالان: هل نوجد أو لا نوجد، كمجتمعات وكأمة. وكيف نوجد، إذا تحقق وجودنا، كمجتمعات وكأمة؟ الخطر أعمق من الصراع على السلطة؛ هو يتعلق بالوجود. كنا نتحوّل الى دولة مارقة، والآن نتحوّل الى مجتمعات مارقة بسبب تجارة العبيد. التحوّل ليس بأيدينا حين تخوض المنطقة حروباً أهلية لتهميش شعوبها. لكن الأخطار الوجودية يجب أن تدفع الى نقاش أوسع وحوار أعمق وممارسة للسياسة أوسع. والأفق مسدود.
نكتب كمن يمارس مهنة التشاؤم. لكننا نكتب لأننا نعيش ونستحق حياة أفضل.
حالياً نعيش من يوم الى يوم. لا نعرف ماذا يخبِّىء لنا القدر في اليوم التالي.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. ضاقت فسحة الأمل. نكتب لأنه يتوجب علينا ممارسة التفكير. يبدأ النهوض بالتفكير. وهذا يستدعي التجاوز. تجاوز ما كنا عليه لنصنع شيئاً جديداً. هدية جديدة، وأمة جديدة، ومجتمعات جديدة.
نمارس مهنة التفكير، وبالتالي الكتابة، لأن الممارسة تبدأ بالتفكير. والمطلوب هو التفكير بعقلانية حديثة. لا ينفعنا في ذلك إلا النزق الفكري: المغامرة بالقول والكتابة بما هو غير مألوف. تكرار المألوف أدى بنا الى الهزيمة على جميع المستويات. سوف نجرؤ على الكلام.
وزير الإتصالات الأسبق الفضل شلق
تعليقات: