الجدار الزجاجي
تقترب العوالم القصصية في مجموعة القاصة والروائية سناء الشعلان، المعنونة بالجدار الزجاجي، من تخوم السرود الأسطورية وعوالمها الدالة على البحث المحموم عن القيم الكبرى للإنسان، حيث البحث الدءوب عن الحب بوصفه البعد المركزي الذي تتجمع حوله، وتنجذب إليه تشعبات الأساطير، وموتيفاتها الدالة، ولكن الأمر لا يتوقف عند السير مع أصداء الأساطير أو التقاطع معها حينًا والتعامد معها أحيانًا أخر، فما زال الخارج النصي، والواقع الخارجي يمسك بخيط الأسطورة، ويوظف فضاءاتها الرحبة الذي تتصادى بنيته مع خطاب الأسطورة الجمعي دون أن تقع على أحد نصوصها الثريّة، من خلال بنية حكائية تميل في الأغلب إلى الاحتفاء بالبساطة، ومن ثم الاقتراب من تخوم المشاعر الإنسانية والعواطف الدالة على تلمس صفة البراءة، التي لم تمس أو تفتض معانيها الكاشفة عن جوهر وجود الكائن.
البحث عن الحب
ومن بين النماذج البدائية المتعددة يمتلك الرمز الأسطوري الدال على المرأة حضوره الأليف في الوعي الجمعي، لما تشير إليه من توق دائم لرغبات الإنسان الكبرى ؛ الخير والحب والرغبة والحياة... ؛ فمن خلال الحب، الذي هو بالأساس المحرك الأول للتاريخ البشري الخلاق، فـ (التاريخ كله عمل من أعمال الحب)(1) يمتلك الكائن البشري صيغته المتوازنة مع عالمه، هذه الصيغة التي لا يختلف فيها الذكر عن الأنثى، فكلاهما باحثٌ دومًا عن الآخر.
وبواسطة هذا الوعي القائم على جدلية البحث عن الحب من قبل الرجل أو المرأة، حيث يصبح أحدهما مُجْلٍ لصورة الآخر، وكأنهما ينشدان نقطة التقاء مفترضة عبر الاتصال، بواسطة هذا الوعي تتكون وضعيات المحكي داخل قصص المجموعة، بحيث تفرض سطوتها البنائية على أكثر القصص، فوراء الخطوط العامة السردية التي تكفل لكل قصة وصفتها السردية الخاصة بها، لا بد أن نجد أيضُا وبالتوازي تلك النواة أو الموتيف الدال على البحث والمشروط بفعل الحصول على الأنثى أو الرجل.
ولن تبتعد عين فاحصة عن تلمس تلك النواة في قصة"سداسية الحرمان" حيث البحث الأزلي في أطوار الإنسان المتعاقبة تاريخيًا -والمتجاورة زمنيًا أحيانًا- عن الأنثى من أول الخلق وحتى اليوم، من أقدم صور المخلوق البشري في صورته البدائية المتوحشة وحتى أرقي صوره المدنية، ولا يختلف الأمر أيضًا ما دمنا بصدد هيئات الكائن البشري، أن يكون هرمًا أو شابًا أو طفلاً، فدورية البحث تسم مطلق الهيئة لا أحد تجلياتها، وعند هذا المستوى لنا أن نطالع قصة " أكاذيب البحر" حيث الحب في اتصاله وانفصاله، أو تحوله من حلم إلى كابوس في القصة التي تحمل الاسم نفسه، أو تحوله من تملك التعاويذ السحرية وافتقاده الحب ذاته بغياب الأنثى التي تبحث بالتزامن عن الرجل/الساحر، الذي يفك لغزها وبالتبعية لغزه أيضًا، فالساحر الذي أطلع على أسفار السحر الأعظم وحفظ عن ظهر قلب تراتيلها وتعاويذها خلسة من وراء معلمه، لا تكفل له هذه التعاويذ إلا شفاء أمراض المحبين، وتحقيق تواصل قلوبهم، في حين لا يمتلك هذه القدرة على شفاء نفسه، أو يملأ فراغ قلبه، ولا يتحقق له هذا الامتلاك إلا عبر صور التواصل مع الأنثى، فالحب لا يتم إلا بفعل التلاقي مع الآخر، فليس هو برانية العلاقة السحرية أو امتلاك الرقى أو التعاويذ بقدر كونه هذا التواصل المراد.
وعند هذا المستوى لابد أن يأخذ طقس البحث والسعي المحموم عنه صورة من صور البحث عن الهوية الذاتية، ليغدو مرآتها ومجلها في الآن نفسه ؛ فيقوم الحب بدور دال على ديمومة الجنس البشري، الذي يغوص عمقًا في أغوار الوعي، فيصبح غياب الأنثى غيابًا لتك الصيرورة، فيصطبغ العالم بصورة روتينية، وتُفَرَّغُ فكرة الزمن من بعدها الدال على الوجود لتنشط دلالتها المعكوسة حيث الوجود الموازي للعدم، فحين يتعلم هذا الكائن المتوحش- في قصة سداسية الحرمان- طرق الحياة والتكيف معها عبر أدواتها؛ الصيد والقنص والسعي..، لا يكتسب هويته الكلية منها، بل بفعل حضور الأنثى التي يكتمل بها فعل الحياة. هذا الوضع السردي تشترك فيه أيضًا- بمعنى من المعاني- قصص أخرى مثل، دقلة النور و الصورة وصديقي العزيز، فالبحث عن الثمرة في الأولى مرادفٌ للبحث عن الأنثى، والتخلص من الألم مشروط بحضورها في الثانية، و في القصة الثالثة يتحول الصديق/ الرجل إلى الحبيب، ومن ثم تغطي سمة البحث والعشق الطرفين.
غير أن هذا البحث عن الحب لو استعدنا آليات تشكله سرديًّا، لا يعبر عن مطلق يُكتسب كل مرة، أو يمثل ظفرًا واكتمالاً للفعل، بما يفضي إلى لون من ألوان التواصل، فالبنية السردية الغالبة على قصص المجموعة تشدد على عدم الاكتمال أيضًا، فالظفر بالأنثى غالبًا ما يعقبه صورة الانفصال والتباعد، خروج الكائن الخرافي(المارد) من القمم، يصاحبه بحث عن الأنثى ولكن الظفر بها في النهاية يمثل مؤشرًا دالاً على الموت الذي ينتهي إليه، وعثور الكائن البدائي عنها أيضًا يتوازي مع قنصها، وفي قصة (أرض الحكايا) يغدو عامل المنارة واقعًا تحت عبء استعادتها، وهو الأمر الذي تنتهي به قصة(الصورة) حيث حضور الموت، إما بفعل القتل وإما الانتحار.
هنا يترادف الحب مع الحرمان والتواصل مع الانفصال والبحث مع الفشل، فتبدو صور الحب مجرد صور مرآوية مخادعة، تقرب وتبعد، تظهر وتخفي، ويصبح البحر بدلالته الرمزية على الماء المعادل للموت(2) البعد المحوري الذي تتكون به وعبره صور الوجود والعدم، الحضور والغياب، فهو ماء الحياة وماء الهلاك، فيتشكل بوصفه رحمًا للولادة والظهور، (ومن بين أرض الشاطئ الرطبة المنكشفة التي عرّاها البحر تبرز هي، تأتيه راكضة بسرعة موجة، وبأسرار غيمة، تكتسي بأردية من زرقة البحر)(3)لكنه أيضًا يمثل عامل إخفاء وتغييب، حيث تنتهي عنده أماني الوصل والقرب، (طالع خاتم الزبد الذي يلبسه منذ أن عشقها ولم يخلعه أبدًا، ثم أخذ نفسًا عميقًا، وانسرب سمكة في الأعماق ليجلب لحبيبته الشاعرة لؤلؤًا ومرجانًا)(4). ومن ثم تغدو مناجاته فعل من أفعال التواصل مع الغائب، الذي يحتويه بين أمواجه، (طفق يبحث عن جسدها بين الصخور ليلاً، ويناجي البحر لعله يلفظ جسدها الذي ابتلعه، ولكن دون جدوى)(5).
هنا وبدرجة عالية يستدعي البحر الأساطير المرتبطة به، خاصة تلك التي تتعلق بالمرأة، فالأنثى التي تظهر عبر أمواجه تتجاوب فيه أصداء الأساطير الدالة على الأم الكونية، حيث تتراءى فيها أسطورة (أفروديت) التي خلقت من(زبد البحر وقرارة الأمواج)(6)، كما تقترب أيضًا من صورة بنات الماء أو السيرينات ذوات الصوت الخلاب المغرر بالبحارة، فأغانيهن العذبة تطرب الآذان، وقد ذكرت في (رحلات أوليس) إذ أمرته (سيرسي) أن يسد أذن بحارته خوفًا من سماع أصواتهن الدافعات إلى الغرق بحثًا عنهم (7) ولكن كل هذه الأصداء تدل في التحليل النهائي عن صيرورة التفاعل عبر لحظات الاتصال والانفصال، القرب والبعد، أو شئنا وصفًا مركزيًا يُصّر عليه السّرد، فلنقل عوامل المد والجذر، التي تكرسها قصة(أكاذيب البحر) فعبر هذه المكرورة التصويرية تظل هيئة البحث مستمرة وحركة التطلع والأمل المنظر وبجوارها تقفز الرغبات المقموعة أيضًا.
ولا عجب في ظل هذه الطقوسية البادية حينًا والكامنة أحيانًا أن يصبح الحب والأنثى لهما دلالة مجاوزة للمعنى الأولي بدرجة ما، وكأنهما يريدان تثبيت دلالة مجردة أحيانًا للحب على درجة قريبة من الوضوح والبساطة والشفافية، فبعل الصفات الموغلة في براءتها وذات المسحة التطهرية التي تخلع على الأنثى تتحول إلى بعد مجازي أقرب إلى الشفافية، على الرغم من جداريات الماء، وإن كانت على صعيد موازٍ تصير مجلى لطقوسية الفقد أكثر من كونها عبور نحو مرفأ آمن، أو تحقيقًا لنبوءة منتظرة أو موعودة، فالبحر دومًا مليء بالأكاذيب وصوره مخادعة ومخاتلة كما مر بنا، وعناصر التصوير المستمدة من عوالمه تأكد هذه الدلالة حين تفرغ من معانيها، فاللؤلؤ والنوارس والأمواج والمحارة والأصداف والمد والجذر...، كلها تقع في حيز البريق الخادع والمُغَرِّر في أوله، والمنسحب تدريجيًا في نهايته، فما يقتنص منها لا يمثل إلا لحظات عابرة مختلسة. (تزوجا، لساعات، لأيام فقط كانا زوجين، تسكعا في أرجاء مدينة القحط، مارسا العشق في كل أرجائها، اختزلا في ساعات حبهما كل مراحل وقصص الحب، إذ إن الفراق يقفُ منتظرًا على الباب وتذاكر السفر تضيع في جيب قميصه البحري، وجف البحر في فراش حبهما)(8)، وكأن البحر هنا يعبر عن هيئة رمزية كلية تختزل كل صور الدخول والخروج والتواصل والقطيعة والابتعاد.
وإذا كان الحب على هذه الهيئة يترابط مع الحرمان والفقد في قصص المجموعة، فإنه أيضًا وبوضعية مجاورة ومتداخلة يتعامد مع دلالته على التحدي، حين يصبح له مفعول السحر والشفاء والتخلص من الألم، فكثير من شخصيات المجموعة واقعة أحيانًا تحت عبء الإعاقة الجسدية، وتبدو ساعية نحو التخلص من كل مظاهرها الدالة عن الاختلاف المفضي إلى العزلة والوحدة، هنا تتحول الإعاقة إلى جدار سميك يراد تجاوزه، ويصبح الحب ذلك الباب السحري المأمول للنفاذ، وهو الأمر المشترك الذي يجمع عدة قصص مثل(الكابوس والطيران على ارتفاع 1000 دقة قلب و رجل محظوظ جدًا) أو حتى تتابع السرود في سداسية الحرمان، فالخصي الذي فقد ذكورته نراه يستعيدها ويستشعرها تمور داخله جراء حضور الأنثى/ الجارية، التي اشتراها السلطان، فتنعكس شهوته عبر شهوتها وحرمانها وفي (أكليل العرس) نجد أنموذجاً دالاً على وضعية الرجل الذي تكمن داخله المرأة، وكأنه يستعيد مقولة (الين واليانغ)(9)، ونجد في تحول حلم التحليق والطيران إلى إعاقة، ولكن الحصول على الحب يكفل بعدًا دالاً على الاستمرار كما في قصة رجل محظوظ جدًا حيث يتبدد السعي عن المال بعد الحصول على حنيه تغدو هي الحبيبة/ الكنز.
وفي ظل هذه القيمة الدالة على الإبراء والشفاء لنا أن نتأمل هذه الكلمة السحرية ذاتها بوصفها تعويذة قادرة على تحويل الكائن، تداوي أمراضه وتشفي أوجاعه، فهي الكلمة السحرية التي تتبد الإعاقة البشرية سواء أكانت إعاقة جسمية أو نفسية فكل صنوفها تزول بقدرة الحب، الذي يحيد الألم كما في قصة صورة، فوراء الغوص في الصورة يتراجع ألم المحب.
وغير بعيد في ضوء الفاعليات السردية والرمزية أن نلقى هذا الحب معادلاً لمفاهيم إنسانية محاورة له وتدور ضمن فلكه التعبيري والإشاري؛ فقيم مثل الحرية والعدل تغدو أيضًا هواجس ملحة تستعيدها المجموعة ضمنيًا في حومة الولع بهذه الكلمة السحرية، ومن ثم يتلازم فقد الحب والمرأة عن حالة من البحث عن قيمة موازية تمثل قيمة الثورة، ويصبحان معًا ردائف لا تنفصل عن بعضها، وكأنهما صارا شيئًا واحدًا، ويصبح لذلك مناهضة الألم الناجم عن أحدهما هو الألم ذاته المعادل للأخرى(هتف الكل باسم الثورة، في المساء كانت هي والأصدقاء حيث يكون كل الثائرين، كانت مؤمنة بعدالة قضيتها على الرغم من وقع السياط المؤلم، أما هم فكانوا يلعنون"هي"التي أوصلتهم إلى هذا المكان، وفي هدأة الليل وضعوا البنود الرئيسيّة لجمعية مناهضة " هي"). (10)
الجدار: ثنائية العوالم
و قصص المجموعة تقيم نوعاً من التوازي بين عالمين يتواشجان حينًا في القصة نفسها، أو تقوم بعضها على عالم والأخرى على عالم مغاير، والقاسم المشترك بين هذه العوالم وتلك قيامها على عمليات التوازن بين عالم يتماس بشكل من الأشكال مع الخرافة الأسطورة أو الحكايات المعبرة عن ماضي قديم، وعالم آخر يقترب من تخوم العالم الواقعي المحتمل أو اليومي والمعتاد، ومن ثم ينهض بين العالمين جوانب من التلاقي داخل بنية السرد، ولكن على محور دلالي يشتغل في فضاء النصوص ثمة تكريس لعملية التجاور المفضي دومًا إلى تباعد وتقارب في الآن نفسه.
إن قصة الباب المفتوح تحوم بنا في فضاء الحكي المتماس مع الخرافة حيث بلورة بنية سردية أقرب إلى الأمثولة المجازية، فالملك الذي تغريه إحدى الحكايا عن وجود سلطان يفتح بابه للشكاوى تغريه هذه القصة ويطلب من معاونيه أن يطلبوا من شعبه أن يقدموا شكواهم وحين لا تصله رسائل من مواطنيه غضب وطالب برسائل من شعبه فلم تأتِهِ إلا رسالة من طفل تحمل معنى السخرية أكثر من دلالتها على الشكوى، لذا نراه يغلق سياسة الباب المفتوح. وهنا يقوم الباب بدور رمزي يقوم مقام الجدار العازل عن الرعية وعن الحرية المأمولة.
إن تأمل لغة عنوان المجموعة وحركة اشتغاله داخل العوالم تعلن عن بعد رمزي بمعنى من المعاني، حيث تخترق دلالته الكثير من القصص، فيغدو الجدار دالاً في سياق القص عن كل هيئات الحدود الفاصلة، التي تمثل التقاطب بين عالمين بفصلهما هذا الجدار ولكنه ينهض على الطرف الآخر بوصفه ذلك الجدار الشفاف الذي يبرز العالمين في وقت واحد ويحجب بينهما كذلك، لذا نجد هذا الجدار الزجاجي يتحول بصورة زئبقية إلى ألوان الدلالات المعبرة عن التلازم بين البعد والقرب والوجود والغياب المرجو والمتحقق، ففي قصة "الجدار الزجاجي" التي تستمد المجموعة منها التسمية، يتحول الجدار باستمرار وراء تنوع صوره ولكنه في كل مرة تظل له دلالة البعد الذي يتحول إلى موت، في البداية يأخذ صورة التباعد عن الأم(جدار زجاجي رقيق كما رقاقة كنافة هو أول من أذاقه الحرمان، وعرفه لوعة التنائي، لا يزال للآن زجاج نافذة سيارة الأجرة التي أقلت أمه بعيدًا ومنذ ذلك اليوم لم يرها أبدًا(11) ومع الانتقال إلى زوجة الأب ينهض جدار زجاجي جديد يحمل هنا معنى العقاب المفضي إلى الحرمان، " كم كره الجدار الزجاجي!! وكم كره الزجاج!! كان يراقب أخوته من أبيه في كؤوس زجاجية شفافة"(12) وهو الجدار نفسه الذي يفصله عن الأخت المحترقة وهو الجدار نفسه الذي يجعله سجينًا أيضًا داخل شرفة المنزل، على هذا النحو يغدو الزجاج بإضافته إلى الجدار ذات دلالة على الشفرة الحادة القاتلة.
ويمكن أن نتأمل هذا الجدار أيضًا بوصفه الرحم الأمومي القاذف إلى حياة تعتلج بصنوف من البشر تتحول القيم لديهم بشكل معكوس فيصبح الشخص المحروم من الأم، والذي تصوره قصة (الذي سقط من السماء) كائنًا دالاً في سياق أولي على (السقط) ودال في ساق آخر على عوالم يتحول فيه الطيبون إلى هوامش على الحياة، ومن ثم يصبح هذا الرحم الدافع إلى الحياة دافعًا إلى كون يندر فيه التواصل على الرغم من الحضور فيه(وأيقن أن الطيبين فقط هم من يسقطون من السماء، ولكن ليس في أحضان جداتهم الطيبات، وإنما على الأرض الصلدة لتدق أعناقهم دون رحمة، أما الأشرار فيعيثون فسادًا في الأرض) (13).
وفي إطار القص الواقعي أيضًا أو ما يسير منه على خطى المأساة الإنسانية تأتي قصة (اللوحة اليتيمة) إذ تبدد أمل الحصول على الجائزة على الرغم من الأمل وبساطة الحلم الذي يغتاله الموت، فاللوحة التي يتمها بطل القصة طارق العساف هي لوحة الموت الذي ينهي علاقته بلوحته الحياتية وأمله في الحصول على جائزتها، بعد طول مثابرة واجتهاد وروح شفافة طاهرة بريئة.
تنوع البنى السردية
وفي إطار المجموعة لا تنبي القصص على بنية سردية واحدة أو على شكل ثابت للحكي يمثل الأساس الكلي المولد للنصوص، فالقصص تترصدها بنى متنوعة للسرد، ولكن يمكن رد هذا التنوع إلى ثلاثة أشكال أساسية، على هذا النحو:
• السرد القائم على التتابع من خلال تنافذ الحلقات.
• القصص ذات التوالي المعتاد لحدث أو شخصية.
• القصص القائمة في الغالب على الوصف أكثر من السرد.
ففي الشكل الأول تتكون القصة عبر تتابع مجموعة من القصص التي تترابط بين بعضها من خلال بعد مجازي كلي، ومن ثم تقترب القصة من شكل المتوالية القصصية أو ما يسمى " بحلقة القصص القصيرة"، وهي كما يعرفها فورست انجرام Forest Ingram (مجموعة من القصص القصيرة التي ترتبط إحداها بالأخريات، إلى درجة يتعدل معها فهم القاريء لكل قصة من خلال فهمه للقصص الأخرى) (14). فثمة بعد مركزي يصهر المتواليات في أفق كلي يمثل العصب الرئيس للقصة، قد يكون هذا البعد قائم على تعدد المنظورات إزاء أفق مركزي، أو تجاورها على نحو متداخل، أو مجرد تقطيع سردي لهيئات الحدث. وتقوم ثلاث قصص باسترفاد هذا الشكل وهي القصص الثلاث الأولى من المجموعة وتحتل فضائيًّا ما يقرب من ثلث صفحات المجموعة(حوالي 75 صفحة) بما يعني اهتمامًا واضحًا بها بجوار بروزها النوعي والكمي.
ففي قصة سداسية الحرمان التي توقفنا عندها أكثر من مرة، يتشكل سردها بواسطة تتابع المنظورات والقصص، حيث نجد ست قصص متوالية، تعرض كل واحدة منها لطور من أطوار الكائن الإنساني في علاقته بالأنثى والحب، على هذا النحو(المتوحش- المارد – الخصي- إكليل العرس-فتى الزهور- الثورة) وكلها تتجمع وتلاقى لرسم الثوابت الكبرى للعاطفة وتجلياتها الرمزية وراء التًّحوّل والتّعاقب التّاريخي لهذه الكوائن، وتحولات الأماكن أيضًا، أما في (أكاذيب البحر) فنجد التراصف القائم على عوالم البحر ولكنها تُفَعّلُ في التحليل الأخير موضوعة الغياب، كما في قصة(الكابوس) إذ نجد تقسيم المنظور الأنثوي والذكري على القصص، بما يؤدي إلى نوع من التناوب السّردي من كل طرف إزاء الآخر.
أما الشكل الثاني للسرد فهو الشكل المسيطر على المجموعة في أغلب القصص، حيث الاعتماد الكلي على رسم شخصية مركزية وسبر أعماقها الداخلية وعمليات بحثها عن رغباتها وتطلعاتها، ويتزامن مع رصد الشخصية ميل إلى تتبع تاريخها القريب أو البعيد، وربطه ببؤرة الحدث المركزية التي تتموقع فيها، فدائمًا هناك انحياز لصورة الكائن، من خلال لغة تبدو لأول وهلة حيادية حيث منظور السرد يقوم على الرصد بضمير الغائب الذي بدوره يبدي قدرًا من الحرية في التعامل مع الشخصية فكم الصفات ذاتها تظهر على مستوى آخر درجة من التعاطف أو تورط السارد مع شخصياته وأفكارها، ومن هذا الجانب لنا أن نرى المنظور السردي لا على أنه سرد أنثوي أو بمعنى أصح سرود نسوية- على فرضية المؤلف الفعلي للمجموعة- فالقاصة لا تتكيء في كلية سرودها، على القسمة الشائعة اليوم التي تمايز الأدب على أساس من الجنس، فالحس القائم على هذا التمايز لا تسير معه المجموعة، بقدر السير مع سبر العوالم الإنسانية من خلال وضعية مفعمة في بعدها العميق بدلالة أكثر شمولا من هذه القسمة، حيث نجد الاحتفاء بالحب والبراءة والطهر...، وكلها تصب في بؤرة أكثر رحابة للتعبير تقترب بها الذات أو الهوية النسوية مع العالم والسرد، فتصبح هذه الهوية تعبيرًا عن نفسها ضمن هذا الأفق.
الوعي الجمعي
ولا نبتعد عن هذا التصور حين نعاين الشكل الثالث للسرد القائم في معظمه على الوصف، الذي يندرج تحته قصتا(أبناء الشيطان) و(الشيطان يبكي)، فهما قصتان تحوم بنا في فضاء القضية المسيطرة على الوعي الجمعي العربي، إذ يرصدان للتشابك مع القضية الفلسطينية ومشكلة القدس، ولكن من خلال التركيز على العدو الغاصب الذي يتماهى بواسطة العنوان والسرد وحتى البناء الرمزي مع هيئة الشيطان الذي تبدأ منه وتصدر عنه كل قوى أو صنوف الشر.
وعلى هذا المستوى الوصفي تتعامد الكتابة القصصية مع نصوص الكتاب المقدس فترصد فعل الخلق الأول وبذور التكوين، وتتداخل فيها أسفاره خاصة (رؤيا يوحنا اللاهوتي)(15). قصة أبناء الشيطان مثلاً يمكن أن نتلمس فيها هذا التعالق مع لغة الوصف في سفر الرؤيا، من خلال عمليات التهويل وأصداء الرؤيا الحلمية الدالة على المستقبل، وعلى المستوى نفسه تتراءى قصة آدم وحواء ومن ثم صور الشر المسيطرة وقوى الإغواء بالبشر، وتحويلهم من النعيم إلى الشقاء، أو تتعالق مع الأحاديث الشريفة حول القدس، الأمر ذاته يظهر أيضا في قصة (الشيطان يبكي)، ولكنها تقترب من تعيين المراد من الشيطان وتحدد هويته، (هيئة الأمم المتحدة كانت رحيمة معه إذا سمحت له بأن يشعر بالأسى كما يشاء، بل إنها أبلغته رسميا بحقه بالحزن حتى الموت، كان شيطانًا رجيمًا في زمن النبي سليمان العظيم، كان يوسوس في صدور الناس، ويرهقهم فتنة وشرًا، وأخيرًا ظفر به سليمان فحبسه لمليون سنه بين لجج البحر وزبده (16).
في القصتين السابقتين انحياز إلى تصوير الرؤيا الكابوسية الراهنة، حيث تستحوذ على العالم والمكان، ولكن ليست هذه الرؤيا الحدية هي ما تصدر عنه المجموعة أو تؤكد عليها، ففي إطار البعد الجمعي أيضًا ثمة تشديد على القيمة، كما لوحظ من قبل، وتأتي قصة (مدينة الأحلام) ضمن هذه الوضعية الأخيرة، ففيها يتم التراسل مع صورة المدينة الموعودة التي تمثل الخلاص والحلم، فبروز هذه المدينة يقلب نظام العالم أو بصورة أوضح يرتبه من جديد، " في البدء لم يصدق البشر نداء السماء، وشعروا بتوجس وريبة، بعض المحبطين والشجعان ورجال الاستخبارات دخلوا تلك المدينة على مضض، كان الكل مدججًا بالخوف والطمع، في تلك المدينة كانت الأحلام تنتشر في كل مكان، منضدة في رخاوة محار الأصداف، كم كانت الأحلام جميلة ودافئة ولها بريق مائي، وطعم حلو/ وملمس حنون، كل حلم ينتظر صاحبه، وكانت الطرق تتداخل وتتباعد وتتقارب؛ لتوصل ضيف المدينة بكل يسر إلى حلمه). (17)
ولكن هذه المدينة ما إن تبدأ في الحضور، ويعم الفرح الكوني، حين تتحقق الرغبات والأحلام الممنوعة أو المقموعة، ما إن يحدث ذلك إلا ويبدأ الوضع في الالتفاف حول نفسه مرة أخرى، فلم يعد تحقيق الحلم بمستحيل ولا تجدده أو استبداله، ومن ثم غدا حلم آخر يراود البشر غير أحلامها المتحققة، وهنا تبدو القصة وكأنها تستعيد الأساطير العربية القديمة حول أرم ذات العماد وما روي حولها من أخبار تمجد جمالها وما تحقق فيها من حلم، وإن كانت القصة فيما يبدو تقيم علاقة رمزية مع فراغ الأحلام حال تحقيقها، فالأحلام رهن التحقق، إذا امتلكت صارت واقعًا أرضيا لا حلمًا.
على هذا النحو تغدو الكتابة السردية في مجموعة (الجدار الزجاجي) لسناء الشعلان، تمجد قيمة الأحلام، والحب والحرية، بلغة وآليات سردية تقوم بالتماس مع أنماط الوعي الجمعي، واقتراب من الهموم العامة الشاغلة للمجموع، بحس أنثوي لا تخطئه مراجعة أولى، حيث تمجيد البراءة، والهوس بالوقائع البسيطة الدالة، والاهتمام بلغة سردية لم تتنازل بعد عن الصورة، أو الزخم الوصف والكلمات ذات العراقة أحيانًا، كل ذلك في فضاء سردي يحتفي بالشفافية التعبيرية، والتواصل القرائي.
هوامش البحث:
(1) J. E. Cirlot: A dictionary of symbols, trans. Jack sage. London & Hentey. 1984 “ Love ”.
(2) جان صدقه: رموز وطقوس، دراسات في المثيولوجيا القديمة. رياض الريس للكتب والنشر، بدون تاريخ، ص 27.
(3) سناء الشعلان: الجدار الزجاجي، منشورات عمادة البحث العلمي الجامعة الأردنية2005م، ص 37.
(4) السابق: 56.
(5) السابق: ص 196.
(6) د. عماد حاتم: أساطير اليونان. دار الشرق العربي – بيروت. ط2 – 1994م. ص 102.
(7) أوفيد: مسخ الكائنات، ترجمة. ثروت عكاشة، مراجعة: د. مجدي وهبه. الهيئة المصرية العامة للكتاب، طـ3-1992م، ص127. وانظر أيضًا: أدموند فولر: موسوعة الأساطير، المثيولوجيا اليونانية، ترجمة حنا عبود، الأهالي للنشر، سوريا ط1 - 1997، ص126.
(8) الجدار الزجاجي: ص 96.
(9) فالمرأة القسم المكمل للرجل، إذ تمثل المبدأ الموجب (ين) في مقابل المبدأ السالب (يانغ) في الفكر الصيني، وفي الفكر اليوناني (الإيروس) في مقابل (اللوغوس)، ويفسر يونغ ذلك من خلال البعد الخنوثي الكامن في الرجل والمرأة ؛ فالانيما هي الأنثى الكامنة في كل رجل، والانيموس هو الرجل الكامن في كل امرأة. انظر: فراس السواح: لغز عشتار، الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة. دار علاء الدين – دمشق. ط7 – 2000م. ص 76. بتصرف.
(10) الجدار الزجاجي: ص 34.
(11) السابق: ص 84.
(12) السابق: ص 86.
(13) السابق 189.
(14) د. خيري دومة: تداخل الأنواع في القصة المصرية القصيرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1- 1998م، ص 267.
(15) رؤيا يوحنا: 18: 1 -3.
(16) الجدار الزجاجي: 230.
(17) السابق: ص 204.
* د.محمد مصطفى علي حسانين / مصر
د.سناء الشعلان
محمد مصطفى علي حسانين
تعليقات: