برلين:
ينهي باسل يوم عمل متعباً، يقضيه واقفاً ست ساعات متواصلة أمام سيخ من الشاورما، وعوضاً أن يتطلع للعودة إلى مسكنه والاسترخاء، تنتابه رغبة بالتوجه إلى أي مكان آخر.
فمنذ أكثر من ثلاثة أعوام ونصف يعيش باسل البالغ من العمر 25 عاماً، مع زوجته في غرفة داخل مسكن مؤقت للاجئين في برلين، لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار مربعة. يتشاركان الحمام والمطبخ مع العشرات غيرهم في الملجأ.
”ليست لدينا أية خصوصية هناك، وبعد أكثر من ثلاثة أعوام فإن الأمر يصبح متعباً“، يقول باسل لـ"عربي بوست" وهو منشغل بتحضير سندويشة شاورما دمشقية في مطعم بزوننالي وسط برلين.
يتذكر باسل أيام كان يعيش في دمشق في منزل عائلته الكبير، ويشعر بشيء من الحنين ويقول: ”أوضاعنا كانت ممتازة في الشام“. ولكن الآن لا مجال للعودة.
فهو مطلوب للتجنيد الإجباري. ولهذا السبب غادر في البداية. ومن المستحيل بالنسبة له العودة. هنا، في ألمانيا، بات مستقبله رغم العقبات. هو واثق من ذلك.
البحث عن مسكن في برلين مهمة شبه مستحيلة بالنسبة للاجئين. فالمدينة تعاني أصلاً من نقص حاد في الوحدات السكنية، وتشير التقديرات الرسمية إلى الحاجة لبناء ما يقارب الـ300 ألف شقة لتلبية حاجات العاصمة. وفاقمت موجة اللجوء عام 2015 التي شهدت وصول حوالي مليون لاجئ من سوريا، هذه الأزمة.
ومراكز اللجوء التي من المفترض أن تكون مؤقتة بالنسبة للواصلين الجدد، تتحول إلى مساكن دائمة، كما حصل مع باسل. ”يحاول المركز (مساعدة اللاجئين) أن يساعدنا بإيجاد بيوت ننتقل إليها بعد أن نتسلم أوراقنا، ولكن قليلاً ما ينجح“، يروي لنا باسل.
عشرات المرات تلقى باسل اتصالاً من المركز للذهاب ومعاينة شقة. عندما يصل يجد 50 آخرين موجودين للهدف نفسه. ويقول: ”في النهاية يقرر المالك أن يؤجر الشقة للألماني وليس لي“.
لا يحب باسل ان يتحدث عن ”تمييز“ ضده من الألمان، فهو يكتفي بهز كتفيه عندما أسأله إذا كان يعتقد أن سبب رفضه أنه سوري.
وبالفعل فالأمر لا يتوقف على أزمة الشقق الفارغة فقط، بل أيضاً التمييز ضد الأشخاص القادمين من خلفيات مهاجرة، وعلى نحو خاص أصحاب الأسماء العربية والتركية.
فقد أجرت شبكة "بايرشر روندفونك" (BR) العامة و"شبيغل" بحثاً عن سوق تأجير السكن، حيث أرسل صحفيو وسيلتي الإعلام المذكورتين قرابة 20 ألف طلب استئجار بشكل أوتوماتيكي في 10 مدن ألمانية على مدار أسابيع، لأصحاب إعلانات تأجير، ووصلهم 8 آلاف رد، وتبين لهم أن ذوي الأسماء العربية والتركية تم تجاهلهم عند طلب معاينة الشقة، في واحدة من كل 4 حالات تم توجيه الدعوة فيها لألماني.
عذراً الشقة مأخوذة!
مورو، الشاب السوري البالغ من العمر 29 عاماً، هو الآخر لم يكن متفائلاً ولم يتردد بتسمية الأمور بأسمائها، "نعم هناك تمييز".
فالشاب الذي يعيش في غرفة بنزل بأحد ضواحي برلين، يتشاركها مع اثنين آخرين منذ عام ونصف يقول لـ"عربي بوست" لقد ”أرسلت ما يقارب الألف رسالة إلكترونية منذ بداية العام بحثاً عن شقة، ودائماً تأتي الإجابة ”عذراً الشقة مأخوذة“.
ويضيف مورو: "بالطبع لن أجد شقة، للأمر علاقة بجنسيتي“. ويروي ”حيلة“ يؤديها أثبتت له ذلك.
يقول إنه أحياناً يتوجه مع صديق إلى أحد أماكن تأجير المنازل، فيدخل منفرداً ويسأل عن شقة لشخص واحد، يقولون له ”عذراً ولكن ليست لدينا إلا شقق لعائلات“. ثم يخرج ويدخل صديقه ويسأل عن شقة لعائلة يقولون له ”عذراً ولكن المتوفر فقط شقق لأفراد".
الشاب القادم من دير الزور شرقي سوريا كان قد بدأ تخصصاً في الهندسة الزراعية لم يكمله، يقضي وقته في تعلم اللغة الألمانية، ويقول إنه يحب التصوير ويسعى للتخصص بهذا الفن في ألمانيا على أمل أن يبدأ تأسيس مستقبله.
وعلى الرغم من أن رئيس النقابة، روبرت فايغر، دعا المؤجِّرين في وقت سابق بأن يتخذوا قرار التأجير بالاعتماد على الثقة، لا وفقاً للأسماء أو التبعية لدين معين، مشيراً إلى أن قانون منع التمييز الذي يحظر التمييز ضد الأجانب في تأجير المنازل أيضاً، مقصده حسن لكن تطبيقه سيئ.
إلا أن ذلك التصريح لم يكن له أثر، وخاصة لدى مورو الذي لا يرى إلا السواد أمامه يقول ”عندما كنت في سوريا كنت مرتاحاً كثيراً، أعيش في شقة واسعة لوحدي في مبنى تملكه عائلتي. ولكن عندما بدأت الحرب كنت في الجيش، فهربت منه إلى تركيا. لذلك العودة إلى سوريا ليست خياراً بالنسبة لي“.
ومنذ ذلك الحين، وخياراته تتقلص. هرب من تركيا ”في الطريق المعتاد“ يقول، لأن الأمور ”كانت سيئة هناك من ناحية العمل والمستقبل“. يروي أنه حاول الذهاب إلى بريطانيا بسبب اللغة ولكنه لم ينجح. فما كان أمامه إلا التوجه إلى ألمانيا حيث أعطته الحكومة إقامة لـ5 سنوات.
شارفت إقامة مورو في النزل على نهايتها مع انتهاء العقد، وقد طلب منه المغادرة. يقول إن مركز اللاجئين عاجز عن مساعدته بإيجاد مسكن. كما أن مساعي عام كامل تقريباً بالبحث عن منزل لم تؤت ثمارها بعد.
يتخوف مورو الآن من أن ”يصبح مشرداً على الطرقات“.
ومع ”فشل“ مساعي هذه المراكز بمساعدتهم، يضطر بعض الباحثين عن منازل للتوجه إلى سماسرة يطلبون مبالغ باهظة للمساعدة.
العرب الألمان هم المشكلة
قصة يامن، لاجئ سوري وصل قبل عامين، ربما تختلف قليلاً فقد اضطر لدفع مبلغ 5 آلاف يورو لأحد السماسرة ليساعده في الحصول على شقة. ”لم أكن أملك المبلغ ولكن اضطررت للاستدانة، كان علي إخراج عائلتي من الملجأ“.
عدد كبير من هؤلاء السماسرة، بحسب رواية اللاجئين السوريين، هم من الألمان العرب. يقول أحد اللاجئين لـ"عربي بوست" عندما ”قدمنا ظننا أن العرب الموجودين هنا قبلنا سياعدوننا، ولكن تبين أنهم هم من يحاولون الاستفادة منا أكثر من الألمان“.
ومع ذلك، فإن الخيارات تبدو محدودة للرافضين استخدام خدمة هؤلاء السماسرة.
محمد مثلاً شاب ثلاثيني، يعمل في متجر في قلب برلين، ويعيش في منطقة تبعد ساعتين بالقطار. يقول: ”أقضي 4 ساعات في العمل، و4 ساعات في المواصلات. ولكن لم يكن لدي خيار. لدي 5 أولاد وكان لا بد من أن يستقروا ويدخلوا المدارس“.
البعض حتى، رغم أنهم قلائل، يجدون أنفسهم في الشارع لأيام وأسابيع.
ومنهم وائل، الذي وجد نفسه خارج ”النظام“ بعد انتقاله من مدينة إلى أخرى ورفض مراكز اللجوء استقباله لنقص الأماكن. قضى في النهاية 3 أشهر، بين نزل رخيصة أو مفترشاً الأرض في منازل معارف، وحتى مقاعد الحدائق العامة. في النهاية وجد وائل غرفة يتشاركها مع أشخاص آخرين. ولكن الأثر النفسي لهذه التجربة، يقول أنه لن يفارقه أبداً.
سعاد عباس، وهي رئيسة تحرير صحيفة أبواب التي تعنى بأخبار اللاجئين في ألمانيا، تقول لـ"عربي بوست" بأن هناك مشكلة سكن حقيقية في برلين، ”وربما بعض التمييز تجاه اللاجئين، ولكن قلائل يجدون أنفسهم مشردين من دون مأوى. الغالبية تبقى في مراكز اللجوء حتى إيجاد مسكن“.
ولكن بالنسبة للكثيرين، فإن هذه الملاجئ، بضجيجها ونقصها للخدمات والخصوصية، محبطة للغاية.
منهم باسل، الذي يفضل في نهاية دوامه وعلى الرغم من رائحة الشاورما التي امتزجت مع ملابسه يفضل البقاء في العمل، على العودة إلى الملجأ.
تعليقات: