«أمل» و«حزب الله» يستخدمان العقلانية الموجعة.. ولا حوار والدم على الأرض
مرة أخرى، يضطر حزب الله وحركة أمل الى استخدام «العقلانية الموجعة» التي تتطلب أعلى درجات ضبط النفس وكتم الغيظ، لتجنب الانزلاق الى مواجهة داخلية، لم يختارا مكانها ولا زمانها ولا حجمها.
مرة أخرى تكرر أمس الاول السيناريو الدامي إياه الذي بدا وكأنه أكمل دورته المأساوية، من تحت جسر المطار الى حي السلم والرمل العالي والجامعة العربية، وصولاً الى منطقة مار مخايل ـ الشياح: مواجهات مريبة، دم يسيل بغزارة على الأرض، براكين من الغضب تغلي وتكاد تنفجر، قبل ان يتم احتواؤها بشق النفس على قاعدة ان الفتنة تبقى خطاً أحمر، مهما تبلل هذا الخط بالدم الأحمر.
ويدرك العارفون بخفايا «الأحد الكئيب» ان البلد أمضى الليل في ذلك اليوم مترنحاً على حافة الهاوية، وكاد يقع فيها بالفعل، لولا الجهود الاستثنائية التي بذلتها القيادات العليا والميدانية في حزب الله وحركة أمل لتطويق النار قبل امتدادها من الاطارات المشتعلة الى الاخضر واليابس. وعُلم في هذا السياق ان الحزب والحركة تدخلا بكل«قوة» ـ مع ما تحمله هذه الكلمة من معنى ـ لضبط الشارع الذي لو تُرك لانفعالاته لكان قد أفلت من السيطرة.
وينطلق قيادي بارز في حزب الله من هذه الوقائع، ليؤكد ان التحرك الاحتجاجي الذي حصل اتسم بالعفوية والارتجال، وبالتالي لم يكن للحزب وحركة أمل يد فيه، ولا حتى معرفة به، معتبراً انه لو كان هناك قرار سياسي لدى التنظيمين بالتصعيد في الشارع ـ كما يروج البعض ـ لكانت المجرزة المروعة التي وقعت قد وفرت لهما «بيئة نموذجية» من أجل الاندفاع نحو التصعيد المستند الى ما يبرره بفعل الدماء المسفوكة.
ولكن ما جرى في الضاحية لا يعني فقط الحزب والحركة، بل لعل المستهدف الاول منه هو قائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي فرضت عليه أحداث الاحد «امتحاناً صعباً» سيحدد مصير ترشيحه الرئاسي. صحيح ان هذا الترشيح قد أصيب بـ«حروق» نتيجة النيران التي اندلعت هنا وهناك، إلا ان أوساطاً واسعة الاطلاع في المعارضة تعتقد ان إنقاذه ما زال ممكناً في حال سارع سليمان الى استدراك ما حصل من خلال إجراء تحقيق شفاف والاعلان عن نتائجه على الملأ ومن ثم العمل بمقتضياته ومحاسبة المسؤولين عن إطلاق النار حتى لو كان من بينهم ضباط، لأن المعطيات الاولية أظهرت ـ حسب الاوساط ـ ان عدداً من الضحايا سقط برصاص «مرقط» من دون ان ينفي ذلك احتمال دخول «طرف ثالث» على الخط، تولى المشاركة في تسعير الموقف عبر ممارسة «القنص الهادف».
وهناك في المعارضة من يسأل بريبة عن طبيعة التشكيلات العسكرية التي تمت قبل أيام قليلة، وتم بموجبها استبدال بعض وحدات الجيش على طريق صيدا القديمة بأخرى، ومدى علاقة ذلك بالطريقة القاسية التي تم اتباعها من قبل الجيش في التعاطي مع المتظاهرين، وهذا ما دفع حزب الله وحركة أمل الى الإصرار على معرفة هوية الضباط الذين أعطوا الأوامر بإطلاق النار والأسباب التي دفعتهم الى إصدارها.
ولعل حركة أمل وحزب الله يشعران هذه المرة بأنهما مُلزمان تجاه جمهورهما ـ الذي تحمل حتى الآن ما يفوق طاقته ـ بضمان تظهير «الحقيقة» واستيفاء رسومها من إجراءات وعقوبات بحق «القتلة»، بعدما بالغا في «التسامح» مع حوادث سابقة مشابهة تحت شعار ان الاولوية هي لقتال إسرائيل وتجنب الفتنة الداخلية، ولكن هذا الشعار لم يعد كافياً على ما يبدو لامتصاص غليان الشارع وتجاوز مشاعره وممارسة المونة عليه الى ما لا نهاية.
ولا يتردد بعض الحريصين على العماد سليمان في دعوته الى ان يدرك ان «كميناً» نُصب له عند تقاطع مار مخايل ـ الشياح وانه ليس مصادفة ان يتم زج جنوده في مواجهة مع الجمهور المؤيد لحركة أمل بالدرجة الاولى، وكأن المطلوب دق إسفين بينه وبين الرئيس نبيه بري الذي كان للمناسبة من أكثر قادة المعارضة حماسة لانتخابه رئيساً للجمهورية، بينما ليس خافياً ان قائد الجيش كان المرشح الثاني لدى الأقطاب الآخرين في المعارضة بعد العماد ميشال عون.
ويلفت هؤلاء انتباه سليمان الى ان أطرافاً عدة في فريق السلطة تعمدت طيلة الفترة الماضية تحريض الجيش ضد جمهور المعارضة وتحركاته المطلبية، تحت شعار ان من واجب المؤسسة العسكرية حفظ الاستقرار وقمع المخلين بالأمن، مع التأكيد «المسموم» بأن الموالاة تقف خلفها في هذه المهمة، داعين إياه الى عدم التأثر بهذا التحريض الذي من شأنه ان يستدرجه الى صدام مع البيئة الشيعية المكونة لجزء أساسي من نسيج الجيش والحاضنة له تاريخياً، الى حدود الشراكة في التضحيات، بدءا من المواجهات التي خاضتها حركة أمل خلال مرحلة الحرب الاهلية دفاعاً عن دور المؤسسة العسكرية وصولاً الى حرب تموز التي خاضها حزب الله والجنود اللبنانيون جنباً الى جنب.
انطلاقا من هذه الحقائق، يعتبر الحريصون على سليمان ومستقبله السياسي ان المحافظة على وحدة الجيش يجب ان تشكل الاولوية الأهم بالنسبة اليه، منبهين الى ان ما حصل في الضاحية خلّف آثارا سلبية في داخل المؤسسة العسكرية ذاتها، حيث للضحايا أقارب والكثير من المتعاطفين.
وماذا عن تداعيات مجزرة الأحد على العملية السياسية؟
يبدو ان المعارضة ستجد صعوبة بالغة في معاودة النقاش السياسي حول المبادرة العربية والانتخابات الرئاسية، قبل جلاء نتائج التحقيق في ملابسات أحداث الأحد، بل هناك من يقول صراحة ان لا إمكانية للحوار حول أي شأن في حين ان الدم ما زال على الارض. ويشدد مصدر مواكب للاتصالات التي جرت أمس على ان المطلوب قبل كل شيء ان يثبت سليمان أهليته كرئيس محتمل للجمهورية من خلال حسن التعاطي مع ملف الجريمة الموصوفة التي ارتكبت بحق المتظاهرين، بعيداً عن قواعد التحقيقات والإجراءات المسلكية العادية التي لا تتلاءم وطبيعة الحدث.
تعليقات: