المهدي بن بركة
استقصاء يكشف المتورّطين من باريس إلى الرباط وتل أبيب
يمتلك هذا الكتاب أهميّة خاصة، لكونه يسلّط الضوء على إحدى أشهر جرائم الاغتيال السياسي، التي جرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم، ونُفِّذت باتّباع أسلوب الغدر والاختطاف، ويضعها في نطاق إطار سياسي متكامل، كاشفاً عن هدفها العام الذي يرمي في النهاية إلى إعادة إخضاع الشعوب وإسكات الأصوات المعارضة. إضافة إلى أن الكتاب يحتلّ مكانة مهمّة في جانب التوثيق وفضح الجريمة السياسية التي ارتكبتها القوى التي خطّطت ونفّذت عملية الخطف والتصفية، وفي إيضاحه أن هدف التخلص من المناضل العربي المغربي المهدي بن بركة، لم يكن فقط القضاء على شخصية عالمية الأثر، بل أيضاً جزءاً من عملية إمبريالية متكاملة، كان هدفها وقف صعود حركة التحرر العالمية التي كان المهدي بن بركة أحد زعمائها البارزين في ذلك الوقت.
يبدأ مؤلّفا الكتاب البحث في تفاصيل جريمة اختطاف المهدي بن بركة في باريس، يوم 29 تشرين الثاني من 1965، استناداً إلى بعض الوثائق الرسمية التي تمتلكها مصالح الاستخبارات والشرطة الفرنسية، وإلى جملة التحقيقات وأقوال الشهود التي نشرت متناثرة في الصحف الفرنسية في ذلك الوقت وبينهم مسؤولون وموظفون كبار.
وينفتح مجرى عملية الاختطاف على سيناريو متقن بحرفية عالية، حيث كان بن بركة، في ذلك اليوم، في طريقه لدخول أحد مقاهي منطقة الشانزليزيه الباريسية، فتقدّم منه اثنان من رجال الشرطة الفرنسية، وأوقفاه، ثم اصطحباه في سيارة سوداء كانت متوقّفة على مقربة منهما إلى جهة مجهولة. وجرت العملية في وضح النهار، وأمام مرأى العديد من الشهود، لكن الحقيقة غُيِّبت واكتنف التعتيم والظلام والكتمان مسارها، حتى إنّ الحكم في قضية الاختطاف صدر في يوم مشؤوم ومدروس هو الخامس من حزيران عام 1967، أي في اليوم الأول من حرب الأيام الستة، أو بالأحرى اليوم الأول ممّا نسمّيه «نكسة حزيران»، فمرّت خاتمة القضية من دون أن ينتبه لها أحد على المستوى الشعبي والرسمي، ومن دون أن يتوضح شيء حقاً، بينما اختفى رجل في هذه الأثناء تماماً، وغُيّبت قضية اغتياله، ولم يُدَن أي شخص كان إدانة واضحة وصريحة باختطافه وتصفيته.
لا شكّ في أن مؤلّفَي الكتاب لا يملكان أيّ أدلة دامغة على الجريمة، التي نفّذت بإحكام وإتقان، لكنهما يحاولان تسجيل شيء ما، للحقيقة وللتاريخ والأجيال القادمة. واقتضى الأمر منهما الدخول في أنفاق مظلمة، ومحاولة فتح أبواب موصدة، بحثاً عن حقيقة اختطاف واغتيال بن بركة الذي كان يمثّل إحدى الشخصيات السياسية البارزة في عصره، حيث كان أحد القادة الرئيسيين للاتحاد الوطني للقوى الشعبية في المغرب، ومنسق مؤتمر القارات الثلاث. وما يزيد مأساوية الجريمة هو عدم العثور ـــــ حتى يومنا هذا ــــــ على جثمان هذا الزعيم السياسي المغربي.
تمثل القضية نموذجاً للعمل الاستخباري، ويعدّها المؤلفان الأولى من سلسلة قضايا الجمهورية الخامسة، حيث كان ينتشر فيها مخبرون سريون على أطراف الحياة السياسية، ورجال شرطة متورطون في أعمال خسيسة، وأفراد من بقايا فرنسا الاستعمارية. كما تمثل نموذجاً للتعتيم الرسمي الذي فرضته الجمهورية الفرنسية، الأمر الذي يشي بتورّط جهات رسمية عليا في المغرب وفرنسا وسواهما. ومع ذلك لم يتوانَ المؤلفان من الولوج إلى ردهات الشرطة السرية الفرنسية، بحثاً عن المجرمين الذين عُرف بعضهم، وبعضهم جرت عملية تصفيته، إمّا انتحاراً أو قضاءً وقدراً.
وتسجّل للمؤلفَين متابعتهما الدقيقة لقضية الاختطاف في مختلف مراحلها، ثمّ متابعة حركة كلّ الأفراد الذين كانت لهم علاقة بالجريمة من قريب أو بعيد، ويمتد الأمر إلى كل شارع وفندق وحانة وماخور في باريس وضواحيها، والهدف هو كشف الحقيقة المغيّبة، لذلك فإن كتابهما يمتلك مسحة استقصائية صارمة، لا مجاملة فيه لأحد ولا سكوت عن اسم أيّ كان، مهما كان منصبه وثقله السياسي. وبفضل براعة التقصي وانحيازه إلى جانب الحقيقة تمكّن المؤلفان من الإشارة صراحةً إلى ترؤّس الجنرال محمد أوفقير العملية ضدّ بن بركة، الذي كلّف بدوره أحمد الدليمي تنفيذها، حيث كان يرى أن بن بركة يمثل العدو الرئيسي له. كما يشير المؤلفان إلى تورط ما لا يقل عن أربعة أجهزة استخبارات عالمية في الجريمة، وهي: الاستخبارات الفرنسية، ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي أي إيه)، والموساد الإسرائيلي والاستخبارات المغربية. إضافة إلى عدد من الأشقياء والمجرمين المعروفين في «العالم السفلي» من تجار مخدرات وأسلحة وقوّادين ومخبرين.
ويرى المؤلفان أن الجنرال شارل ديغول لم يكن على علم بعملية اختطاف بن بركة، وقد وجد نفسه أمام ألد أعدائه، وهم جماعات الضغط الاستعمارية التي كانت تأبى التفريط بالإمبراطورية الفرنسية، وبعض أفراد مصالح الاستخبارات والشرطة الفرنسية، التي كان يتوجّس منها إلى الحدّ الذي أقام فيه شبكاته الخاصة، ولا سيما لمحاربة منظمة الجيش السري في الجزائر. لكن المحور الذي خطط ونفذ الاغتيال يمر بأشخاص كالجنرال أوفقير، وعدد من الشخصيات الفرنسية التي كانت تنظر إلى المهدي بن بركة بوصفه شيوعياً بغيضاً، ومع ذلك يرفض المؤلفان تبرئة السلطة الديغولية من كل مسؤولية، نظراً لتواطؤ أجهزة الاستخبارات والدولة بعد عملية الاختطاف، حيث عمدت وزارة الداخلية الفرنسية إلى إخفاء المعلومات المتاحة في ذلك الوقت، مراعاة للسلطة المغربية.
ويبرز المؤلفان ما ورد في مذكرة مصلحة التوثيق الخارجي ومكافحة الجاسوسية في فرنسا، التي كتبت في 30 أيلول 1966، وتشير بوضوح إلى أن الأميركيون «أثاروا» الجنرال أوفقير، وكانت أهدافهم ترمي إلى تخليص المملكة المغربية من خطر واضح، وإفشال مؤتمر القارات الثلاث الذي كان بن بركة يحضّر له في هافانا، وزعزعة ديغول بوصفه الوحيد ضمن المعسكر الغربي الذي كان يأبي الانحياز إلى سياساتهم.
* كاتب سوري
تعليقات: