يعدّ موسم شتاء 2017 ـ 2018 من أفقر المواسم وأكثرها شُحّاً. أيام دافئة وحرارة أعلى من معدلاتها السنوية في مثل هذه الفترة من السنة، الأمطار نادرة، ولا عواصف ثلجية، والثلوج تقتصر على مرتفعات تعلو الـ 1400 متر
أثارت قلّة الأمطار المخاوف لدى الناس. وفيما ينسب بعضهم السبب إلى التغيّر المناخي، ويعزوه آخرون إلى غضب إلهي، تبقى النتيجة واحدة، هي القلق المحدق ببلد لم تتخذ دولته التدابير والإجراءات اللازمة للحدّ من أضرار شحّ المياه، خصوصاً في فصل الصيف.
كمية المتساقطات، حتى أمس، بلغت 207 ملم بحسب رئيس مصلحة الأرصاد الجوية في مطار بيروت الدولي مارك وهيبة، وهي كمية ضئيلة مقارنة بالمعدل العام لهذه الفترة (382 ملم)، الذي احتُسب خلال 30 سنة.
يقول وهيبة إن قلة المتساقطات تعدّ أمراً طبيعياً. فهناك تفاوتات طبيعية بين سنوات شحيحة ووسطية وأخرى عالية المتساقطات، ولا علاقة لهذه التفاوتات بالتغيّر المناخي الذي تشهده الأرض. وقد «شهدنا في العشرينيات والخمسينيات والستينيات من القرن الماضي سنوات شحيحة قلّت كمية المتساقطات فيها عن 120 ملم». ويلفت إلى أن الحكم بتغيّر الطقس يستوجب تكرر الظاهرة نفسها لنحو 15 سنة متتالية على الأقل.
وإذا كانت قلّة الأمطار وتفاوت كمياتها ظاهرة طبيعية غير استثنائية شهدناها في الماضي، فأين انعكست آثار التغيّر المناخي التي تستدعي القلق؟
بحسب وهيبة، ينعكس ذلك في معدلات الحرارة وكمية الثلوج، مشيراً الى أن كميات الثلوج إلى تناقص، إذ «لم نعد نشهد تراكمات تصل إلى أكثر من 10 أمتار كما في الماضي»، لافتاً إلى أن لبنان «شهد عام 1982 تساقط كمية ضخمة من الثلوج أدّت الى تسوية بيوت بالأرض، كما شهد عام 1992 عاصفة ثلجية لامست الساحل».
قلة الثلوج «كارثة على المدى الطويل، وهي ناجمة عن التغير المناخي»، كما يقول المهندس البيئي في الجامعة الأميركية نديم فرج الله لـ«الأخبار». فـ«المياه الجوفية تتجمّع من ذوبان الثلج، أما الأمطار فتذهب هباءً بسبب المنحدرات التي تتميز بها الجغرافيا اللبنانية».
هل يمكن أن نشهد انفراجاً في الطقس، وأن تعوض الأشهر الباقية حتى أيار 2018 هذا الشح؟ هذا ما لا يمكن التنبؤ به بحسب وهيبة الذي أكد أن التوقع العلمي الأضمن يقع في حدود أربعة أيام. «اليوم الرابع يمكن احتماله، أما التوقعات قبل أسبوع فعلينا أن لا نصدقها كثيراً حيث هامش الخطأ كبير».
يوافق فرج الله على أن تفاوت كميات الأمطار أمر طبيعي، مشيراً إلى أن المعدل السنوي للمتساقطات في البقاع لم يتغير خلال 63 سنة.
عينة من المعطيات تعكس التفاوت في كميات المتساقطات
أما «الربط الصحيح الذي يجب التنبه له، فهو في العلاقة بين التغير المناخي والجفاف». فجراء الاحتباس الحراري، صارت درجات الحرارة أعلى من مستوياتها ، ففي الماضي كان عدد الأيام الأشد حرارة 3، وارتفع بعد سنة 2000 إلى 6 ــــ 7 أيام، وبعد سنة 2012 إلى 13 يوماً». ويلفت فرج الله إلى أن معدل الدرجة القصوى بين عامي 1875 و2005 بقي ثابتاً تقريباً، فيما زاد معدل درجات الحرارة الدنيا ثلاث درجات، «وهذا له تداعياته الخطيرة على الغطاء الثلجي، وعلى سرعة ذوبان الثلوج».
رغم ذلك، وبعيداً من الكلام غير العلمي المتناقل، يؤكد فرج الله أن لبنان لا يزال يتمتع بفصوله الأربعة. لكنه يشير إلى أن المنطقة العربية، ومن ضمنها لبنان، ستشهد على الأرجح نقصاً في المياه بين عامي 2070 و2100، مع ميل كمية المتساقطات إلى التناقص بحدود 10 في المئة.
حروب... ونزوح مائي
كلام فرج الله يأتي مساوقاً للتقرير الذي صدر عن البنك الدولي في آب 2017 بعنوان: «ما بعد ندرة المياه: الأمن المائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، والذي حذّر من موجة جفاف قاسية ستشهدها هذه المنطقة «الأشد ندرة في المياه في العالم». وعزا ذلك إلى التغيرات المناخية كمحرك رئيسي في إجهاد المياه السطحية وارتفاع معدلات الزيادة السكانية (2% سنوياً)، وتوسع المدن حيث «يتوقع أن يتضاعف عدد سكان المدن في المنطقة بحلول عام 2050 إلى نحو 400 مليون نسمة».
ورجح التقرير أن تنجم عن ذلك اضطرابات وحروب وخسائر اقتصادية وموجات نزوح إلى أوروبا وغيرها من مناطق العالم الأكثر غنى بالمياه. وأوضح أن أكثر البلدان تضرراً والتي ستواجه أعلى مستويات من الإجهاد المائي مدفوعاً بتغيير المناخ هي العراق ولبنان والأردن والمغرب وسوريا. ووفقاً للتقرير، إن عدم كفاية إمدادات المياه وخدمات الصرف الصحي (تكرير 2 في المئة فقط من مياه الصرف الصحي) والهدر والاستهلاك الهائل المتزايد يؤدي إلى نضوب موارد المياه، ولا سيما المياه الجوفية، و«يكلف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نحو 21 مليار دولار سنوياً خسائر اقتصادية». ودعا إلى اتخاذ التدابير العاجلة لتحسين إدارة الموارد المائية الشحيحة وتوزيعها، معتبراً ذلك «إجراءً حيوياً ملحّاً لاستقرار المنطقة».
ما الذي يمكن فعله؟
الماء أساس الحياة. نضوب هذا المورد وتلوثه نتيجة التغيرات المناخية والسياسات الخاطئة في إدارته أدى إلى ارتفاع مخيف في معدلات الإصابة بالأمراض المعوية والسرطانية. نهر الليطاني نموذجاً. وسيؤدي كذلك إلى مزيد من الكوارث، إن لم يجرِ العمل الجدي المستدام اليوم قبل الغد.
ما الذي يمكن فعله؟ يقول فرج الله إن هذا يكون في إطار خطة شاملة متكاملة قطباها الدولة والمواطن، وحلولها تنطلق من المحلي وتشمل الإقليمي والعالمي، «ابتداءً من ترشيد استهلاك المياه في الصناعة والزراعة، تخزين المياه الجوفية وحمايتها، معالجة المياه المبتذلة، زيادة الغطاء النباتي الذي يساعد في امتصاص المياه وعدم تحول الأراضي إلى صخرية لا تحتفظ بالمياه، إضافة إلى أن خطة السدود المائية التي بدأت محلياً في القيسماني، بقعاتا، بلعة، جنة، المسيلحة تعالج قسماً من المشكلة…».
تعليقات: