لم تترك الحروب لنا الكثير من الفرص في الحياة لنقوم باختبارها، وتوضيبها، وتجميلها حسب ما نتمنى،بل أشغلتنا تلك الحروب بتجميل ما خلفته من تشوهات نفسية ، وجسدية ، وحياتية فكم من إنسان عاصر حربا وانتهت لكنه لازال يسمع صوت طائرات ( أف ١٦) وهي تحلق في فضاء أحلامه ، كما لو أنها كابوس يتقن إصابة الهدف ، حتى في حالات النوم ، والغفوة
وكم من طفل بات يختبيء من طائرة شبحية ، كى لا تكشف راداراتها مكان ألعابه ، وكتبه ، وأمنياته ، ومن ثمة تقصف طفولته بقنابل مسيلة لدموع القدر ، وكم من مسن باتت أدويته ، ومسكناته ، حليفة له كي لا تخونه ذكرياته ، وتعيد فتح جبهات مر عليها الزمن ، لكنها لازالت مستمرة في عقله الباطن ، تحمل أسلحتها ، تختلى بوحدته لترفع ضغط الحياة في شرايينه الى ما فوق مستوى التحمل وكم من أم أقلقها مصير عائلتها ، وهي ترتق ما تبقى من قماش قوتها ، لتبدو أكثر تماسكا أمام هبوط الخوف في مطارات قلبها ، وتفجر الأحداث في مناطق عاطفية من عقلها ،
وكم من وردة إرتجف عطرها ، وذبلت ألوانها ، حين تمر بمخيلتها الضئيلة خطوات الرعب من هدير دبابة ، وأنين مصاب على وشك الإحتضار ، لأنها تعلم بأنها ستتحول تلقائيا الى أكاليل تزين توابيت الموتى ، وتواكب خروج أرواحهم من جسد الحياة
الكثير منا من لا زالت ذاكرته مفخخة بالألم ، والكثير منا لا زال يخشي أن يدوس على ذكرياته كى لا تتبعثر أشلاء ذاته بلغم لم يستطع النسيان إبطال مفعوله
وكم من حقل للألغام قد زُرعنا بداخله ، وما من سبيل للخروج منه سوى بمخاطرة قد تفقدنا أجزاء منا ، أو كلنا
فهناك من ودع الحرب لكنه لم يستطع أن يودع تلك الصور التى لا زالت تقطن في عمق هويته ويشعر بملمسها الخشن ، في لقمته لتخرج الغصة من داخله وكأنها شظايا ، تجرح ما تبقي له من شهيق وزفير للأمل
وهناك من آلف صوت الموت ، وتعود حفر قبور جماعية في صدره ، لدفن أسماء أحبته ، وطمرهم بتراب الإشتياق ، واللهفة ، ورش الأرز على تواريخ رحيلهم ، لعل حبات الأرز تلك تتحول الى فصل ربيع لحصاد الحزن ، وحرث الوجع الكامن بداخلهم
فمن يصنعون الأسلحة جنوا الكثير من الأموال ، كما أنهم جنوا الكثير من الخراب ، والموتى ، واليتامي ، والمعاقين ، والمشردين ، والخائفين ، والمحبطين ، والعاطلين عن الحياة ، الذين لازالوا في أرصدة أعمالهم لتشهد عليهم أمام الله
لكل من لازالت الحرب تشتعل في ماضيه، وحاضره
نقول عليك الإستمرار في المواجهة
لا تستسلم فتنكسر حياتك أكثر
لا تضعف فبداخلك الخوف سيكبر
لا تنحنى أمام ذكريات تجبرك على الألم لتغتالك الحرب الوهمية بداخلك فتحتضر قبل أوانك مرات ومرات،
أخرج نفسك من حرب نفسك ، واستمر بالعبور الى الأمل ،
فحتما هناك شمس ستشرق
وورد سينبت
وحرية ستولد من رحم الموت
ونسيان قد يتجرأ لرمى قمامة الحروب في حفر اللاعودة
ولتعلن حظر تجوال الذكريات طيلة الأربع والعشرين ساعة لمدى العمر ، حتى لا تخرج جروحك بثورة تسقط فيها جمهورية حياتك
وتقيل فرحك
وتستعمر عاطفتك ومشاعرك
وتقيد إبتسامتك
سلاما للصامدين ، للباقين على قيد الأمل ،
للناجين من الحروب
رغم بترها للكثير من أعمارهم ، وحرياتهم ، وأفراحهم
* هدى صادق
تعليقات: