تقــــريــــــر لـ\"التــيــار الـوطـنـي\" عـــن الـــعـــودة يعـــدّد التــجـــاوزات


شــــراء أرض لـ"بيت الضيعة" البــــديـــل في بـــريــــح وأهلهـــا ينتظـــــرون

كفرمتى تنفض تدريجياً غبار التهجير.

صحيح ان البلد غارق في دوامة ازمة مفتوحة، لكن الصحيح ايضا ان ثمة ملفات انسانية مفتوحة منذ ما يزيد على ربع قرن ولا تحتمل الاهمال اكثر، حتى ولو بذريعة ان الوضع مأزوم، وان بعض المسائل متوقفة حتى اشعار. من بين هذه الملفات، عودة المهجرين التي ظلّت جرحا نازفا في زمن السلم.

عودة المهجرين لم تتحرك الا بخطوة خجولة خلال العام الفائت، عبر توقيع مصالحة كفرمتى، ولا تزال تتعثّر في عدد من القرى حيث يعيش اهلها على الوعود من عهد الى عهد والنتيجة واحدة: مهجر منسيّ لا يقبض سوى التقصير.

هذا هو حال ابن بريح. تلك القرية الشوفية تهجرت على مراحل منذ المجزرة التي حصلت في كنيسة مار جرجس في 21 آب 1977 . حينها، ترك بعض الاهالي القرية ولجأوا الى بيروت، وبقيت الغالبية حتى 1982، عام التهجير النهائي. ومنذ مطلع التسعينات، حصلت بعض التعديات على املاك العائدين، فأقيمت أبنية وشقت طرق وصودرت اراض، كما شيّد المقيمون بيوتا على ارض الدولة المسماة ارض التعمير، وتضم عشرة بيوت مخالفة، علما ان هذه الارض استملكتها الدولة عام 1956 ليبني عليها المتضررون من الزلزال بيوتا لهم، الا ان التعدّي الابرز كان انشاء " بيت الضيعة" على بعد امتار من كنيسة مار جرجس المهدّمة، وقد بدأ تشييده عام 1991، اي بعد نهاية الحرب واقرار الطائف الذي نص في احد بنوده على عودة كريمة لجميع المهجرين. اذاً، على ستة عقارات تبلغ مساحتها حوالى 11 الف متر مربع، شيّد البيت، وهناك لوائح وافادات عقارية تبرز بالاسماء مالكي العقارات التي تعود الى المسيحيين، خلافا لما يقال احيانا عن ان جزءا منها ارض مشاع، اي مساحة عامة. والمالكون هم جنا حسون وابرهيم حسون ونجيب عدوان وسعيد عدوان والياس عدوان وشاكر كوكباني، كما ان تكميلية بريح الرسمية كانت مقامة حيث "بيت الضيعة" مشاد اليوم، وقد تمّ هدمها.

أبناء بريح لا يهملون مناسبة إلا يؤكّدون حرصهم على التعايش، ويصرون على انجاز المصالحة، وهم يفضلون ازالة "بيت الضيعة"، رافضين ان تكون المطالبة بازالته "رسالة سياسية الى احد، او شرطا تعجيزيا، بل هي مطلب عادل لعودة متينة"، متسلّحين بكلام سابق للنائب وليد جنبلاط في 12 تموز 2001، يقول فيه: "سنفتش عن ارض من اجل ان نبني بناء جديدا لاهالي القرية المقيمين، ثم نعيد الارض السابقة المعتدى عليها من دون مبنى مقام، وهذا الامر يلزمه بعض الوقت".

بين التمنّي والتشاؤم

" بعض الوقت"، هذا تطلّب اكثر من ستة أعوام. ففي 11 ايلول 2007 ، تم شراء العقارين الرقم 15 و16 في بريح لحساب الطائفة الدرزية بغية تشييد بيت بديل للضيعة وتم دفع 195 مليون ليرة للسيد يزيد توفيق جاسر، ثمنا للعقارين المذكورين. وبعدما كان " بيت الضيعة" الحجة الاساسية لتبرير تأخير العودة الى بريح، فما الذي يعرقل العودة اليوم؟

يقول امين سر "لجنة بريح" كريم لحود: " الوضع العام يؤثر سلبا، كان لا بد من ان نفيد منذ زمن وتعاد حقوقنا. اليوم، لا نزال ننتظر توافر الاموال، حتى بعد شراء الارض، كي نبدأ بتكوين ملف المصالحة".

المفارقة ان وزير المهجرين نعمة طعمة، وخلال مؤتمره الصحافي في 28 تشرين الثاني 2007 الذي عرض فيه " انجازات العودة" لم يعلن شراء الارض، فيما اكتفى بالقول: "اجتزنا شوطا متقدما في بلدة بريح بغية حلّ بعض العقد المتمثلة في بيت الضيعة"، والسؤال، لماذا لم يعلن الشراء الذي لطالما وصف بأنه الممر لاي عودة الى بريح؟ يعلّق لحود: " المهم ان نأكل العنب لا ان نقتل الناطور. ربما الكلفة الباهظة للارض كانت السبب الاساسي في عدم الاضاءة عليها كثيرا". ويؤكد ان "الشراء تمّ عبر عملية مالية ضخمة، انما بسبب الدوامة الحالية، ليس هناك اي تقدّم في ملف العودة، اي ان حقوقنا لا تزال في ادراج الانتظار"، ويلفت الى انه " بعد الشراء، كان من المتوقع ان تباشر الاجتماعات في الوزارة ليفتح ملف المصالحة بين ابناء بريح، الا ان التأزم السياسي اوقف كل شيء".

وما دام " المبلغ الضخم" دفع، فما الخطوة التالية لترجمة العودة؟ يجيب لحود: "لا بد من تكوين الملف، وخصوصا ان بيت الضيعة واحد من 82 مخالفة في بريح. صحيح اننا كنا سابقا في المواجهة مع الفريق الاخر، لكننا اليوم بتنا في خندق واحد، ولن نقبل بأن تأتي العودة على حساب كرامتنا ولن نقبل بالتجاوز، وسيبقى شعارنا كما هو: ازالة التعدي ثم التفاوض. ففي بريح الكثير من التعديات، ونحن اليوم نحاول تجاوز التنافر الاكبر المتمثل ببيت الضيعة".

ازاء هذا الواقع، هل المطلوب هدم " بيت الضيعة" وانشاء البيت البديل قبل العودة؟ يقول لحود: "نتمنى على النائب جنبلاط هدم بيت الضيعة، وانشاء البيت البديل. من هنا، تبدا المصالحة الحقيقية لا الكرتونية".

ويقابل هذا " التمنّي" تشاؤم يعبر عنه ابن بريح المهجر الياس خليل الذي يشير الى ان "لا تقارب ولا جديد طرآ على ملف بريح، حيث ان شراء الارض لم يُترجم بأي خطوة اخرى. لقد دفعت الوزارة ثمنها غاليا جدا، وبلغ 50 دولاراً للمتر. انه سعر خيالي، وأهالي بريح باتوا متشائمين لناحية العودة. هم يشهدون كيف تنفق التعويضات هنا وهناك، حتى بعد عاصفة ثلجية او حادث طارئ، فيما نحن لا نزال مهجّرين منذ 30 عاما، ولا من يتكلم على شهدائنا وارزاقنا، وسط تواطؤ واهمال من المرجعيات الدينية والسياسية".

ويتخوّف خليل من "وضع شروط تعجيزية جديدة. فنحن لا نفهم لماذا هذا الصمت على شراء الارض. نريد حقوقنا بعد تأخير مقصود. ولا شيء يبرر صمتهم سوى ان لا نية لديهم لتأمين العودة، مما يؤكد لنا ان الشراء لم يكن الا بابا اضافيا للاهدار والمحسوبيات".

واذ يلفت الى ان " الدولة ملزمة الاعتناء بمن تهجر"، يرى ان " الكذب والنفاق يحكمان هذا الملف الانساني، ونخشى ان يكون ثمة قرار بعدم عودتنا. هم دائما يتذرعون بالذرائع المالية، واليوم وجدوا المال الضخم لشراء الارض، وهذا مؤشر اضافي الى الكذب، وما دام الانحياز مسيطرا، فلا امل لدينا، وكيف سيكون الحل مع من كان السبب في تهجيرنا؟".

"التيار الوطني" والتقرير

بريح ليست وحدها المهجرة، بل هناك عين درافيل وعبيه وكفرسلوان، فيما كفرمتى وقعت المصالحة في 8 ايلول 2007 ، الا ان المنازل لم تسلّم كلّها الى المهجرين.

هذا الرصد لحركة العودة، استكملته "لجنة التدقيق في ملف المهجرين" في "التيار الوطني الحر"، وأكبت على وضع تقرير عن عام 2007 ، تشير فيه الى ان "المصالحة في كفرمتى تمت بعد عام على المصالحة الصورية في المختارة، ولم تخل كسابقاتها من التجاوزات وبلغ عدد الاخلاءات 800 عند التوقيع و981 لاحقا، ولم يتعد عدد تعويضات الترميم للمسيحيين 160 تعويضا. وقد بوشر الدفع ابتداء من تشرين الثاني الفائت. والابرز هو عدم تسليم كل الاملاك للمهجرين خلافا لما نصت عليه المصالحة بوجوب تسليم الاملاك بعد دفع التعويضات بـ15 يوما".

من جهته، لا ينفي رئيس بلدية كفرمتى فؤاد خدّاج عدم تسليم كل الاملاك، ويعزو ذلك الى ان " الدروز قبضوا خمسة آلاف دولار كقيمة الاخلاءات، وقد انجز الدفع. الا ان الدفعة الاولى من الاعمار والتي تبلغ 15 مليون ليرة، لم تدفع للجميع بعد، ونحن سبق واتفقنا مع وزارة المهجرين على تسليم البيوت مع الانتهاء من دفع تعويضات الاعمار، حتى يستطيع الدرزي الانتقال الى بيته قبل اخلاء المنزل، ومن المتوقع ان تنجز هذه الامور خلال شهر اذا استمرت وتيرة الدفع قائمة".

وحين نسأله ان هذا الاجراء مخالف لقوانين المصالحة التي تحدّد المدة بـ15 يوما، والاّ على القوى الامنية اخلاء المنازل بالقوة، يجيب خداج: " سبق ان اتفقنا على هذا الامر، وكل شيء يسير على ما يرام".

واذ يلفت الى ان " لا عوائق في مصالحة كفرمتى"، يتخوّف تقرير "التيار" من ان "تكون المصالحة مناسبة لدفع الاموال فقط وغياب اي نية لتسليم القرية الى اهلها تنفيذا للعودة".

والتقرير يتجاوز المئة صفحة، ويفصلّ بالارقام والجداول والرسوم البيانية والمستندات، مدفوعات الوزارة والصندوق والتطورات في موضوع المصالحات العالقة. ففي ملف بريح، يكشف تفاصيل عن شراء الارض، ويورد انه "تمّ شراء الارض في 11 ايلول 2007، بغية تشييد بيت للضيعة بديل، وتم دفع 195 مليون ليرة ثمنا للعقارين 15 و16 للسيد يزيد توفيق جاسر، اسم امه فيروز السغبيني، المولود عام 1964، رقم سجله 32 ، علما ان البناء الاول المخالف شيّد بتمويل من وزارة المهجرين وبأموال المكّلف اللبناني".

اما في ملف عين درافيل، فيلفت التقرير الى ان " هذه القرية لا تحتاج في المبدأ الى مصالحة، لكونها لم تشتبك مع سكان القرى المجاورة من الدروز، بل نزح اهلها بفعل الفرز السكاني، الا ان ملفها لا يزال عالقا حتى ايجاد فريق من طرف وليد جنبلاط يتقاسم التعويضات مع المهجرين".

هكذا، تتعدّد المآسي. واللافت ان القرى التي توضع عادة في خانة البلدات العائدة، بقيت فيها نسبة العودة صفرا، واللوم هنا لا يقع على المهجر المسيحي، كما يحلو للبعض التفسير، بل ثمة مقومات نفسية واجتماعية غائبة وباتت تشكل عوائق على مرّ الزمن. وهنا، يبرز التقرير "مقارنة بين حركة عودة المهجرين الى الجبل والجنوب. اذ بلغت نسبة العودة التراكمية الى أقضية بعبدا وعاليه والشوف: 16,6 في المئة في كانون الاول 2007، بعدما كانت 17 في المئة عام 2001، فيما تقدّمت العودة الى 52 في المئة الى أقضية صيدا والزهراني، بعدما كانت 45 في المئة عام 2001، والتراجع الاكبر سجل في قضاء عاليه حيث بلغت النسبة 10,4 في المئة".

يفسّر المسؤول عن ملف المهجرين في " التيار" سيزار ابي خليل " هذه المقارنة بأنها تكشف مدى تقصير المعنيين في اتمام العودة الى الجبل، ونضعها برسم الكنيسة التي اجرت الزيارات التاريخية للجبل، وبرسم الذين ادّعوا ان ليس هناك مهجرون، وبرسم نواب الجبل والوزراء المسيحيين، وتحديدا الوزير طعمة الذي قدّم جردة بالاعمال، ونقول له ان الانجاز لا يقاس بكمية الاموال التي انفقت، بل بمدى تحقيق العودة الكريمة، والاهم اننا نضع هذه الارقام برسم الرأي العام للمفاضلة بين ما انتجته سياسات الفساد في الجبل والسياسات الصادقة في الجنوب".

بالارقام، يبرز التقرير مدفوعات الوزارة من اول كانون الثاني والى اخر كانون الاول 2007 ، وتبلغ 94 ملياراً و464 مليون ليرة، ومنها 54،8 في المئة للمسلمين و45،2 في المئة للمسيحيين. اما مناطقيا، فبلغت 34,8 في المئة في بيروت و17،2 في المئة في الشوف و20،9 في المئة في عاليه و9 في المئة في طرابلس. والبارز في التقرير، هو الاضاءة على ملفي دقون والغابون، من ضمن سلسلة المخالفات. ففي الاولى التي وقعت مصالحة مع بعورته، يقول التقرير ان " الدفع كان ضئيلا، مما ادى الى رصد ثلث المبلغ للمهجر وثلثه لاهالي بعورته، والمفارقة ان الاخيرة لحق بها تعديل بزيادة مبلغ اضافي دفع تباعا، بينما لم يلحق بأهالي دقون سوى زيادة في الغبن". يوضح ابي خليل انه " وفق القانون، التعويض يوازي الضرر، الا ان مبلغ الترميم كان يعدّل احيانا عند الدروز، فيتحوّل اعمارا ويرتفع المبلغ حكما. من هنا، نلاحظ ان التسميات بين ترميم واخلاء واعمار باتت فارغة ولا تترجم الواقع، بحيث تصبح كلّها وحدة دفع للاستفادة المالية، وبحسب الروزنامة السياسية للجهة الحاكمة. ففي الغابون مثلا شهدنا دفع 590 مليون ليرة تعويضات اخلاء خيم بلاستيكية لزراعة الورود، معظمها كان قائما على اراض اخليت سابقا، فيما لم يحصل اصحاب الارض على اي تعويض. اما مسألة توحيد التعويض، فنعتبرها ايضا ظلما، لكون الوضع مختلفا بين قرية واخرى، حتى بين المنازل نفسها، لجهة فداحة الاضرار وحجمها، وبالتالي فان التوحيد يلحق الغبن بعدد من الاهالي، فضلا عن ان كلفة التعويضات لا تزال نفسها على رغم ارتفاع اسعار مواد البناء".

وفق ابي خليل، ان "هدف التقرير وضع المعلومات في تصرّف الرأي العام وبرسم المعنيين، احتراما للشفافية، وخصوصا ان اللجنة كلّفت متابعة موضوع العودة في 3 ايلول 2005، ومن واجبها جمع المعلومات ورصد الحركة والمراقبة. هدفنا الاول والاخير تأمين العودة المحقة لا المحاربة السياسية، كما يتهمنا الفريق الاخر، لاننا نريد الغاية المرجوة وهي اعطاء المهجر بيته، لا ان نمننّه بحقه".

هذا الحق لا يزال معلّقا منذ اكثر من 25 عاما، حتى عند الذين عادوا، اذ لا تزال الدولة غائبة عنهم، وهم يلملمون "اشلاء" بيوتهم خلف قهرهم المنسيّ.

تعليقات: