شرق صيدا – عطالة متمادية ومقامرة بيتيّة وملاهٍ قـروية

ملهى ليلي في البلدة
ملهى ليلي في البلدة


عن أحوال منطقـة شرق صيدا – القـريّـة نموذجاً

الاستنقاع والخوف والانقسام الاهلي الطوائفي، والحزبية داخل الطائفة الواحدة، وانغلاق الحياة العامة، وبطالة الشبان وضيق حياتهم المحلية وهجرتهم... كل هذه المظاهر التي تكبل المجتمع اللبناني اليوم، تنعكس على بعض قرى شرق صيدا التي هُجِّر أهلها في زمن الحرب وعادوا اليها لمباشرة حياتهم من الصفر قبل 15 سنة. هنا لمحة او شهادة عن احوال القريّة في هذه المنطقة.

يلفتك اثناء مرورك في شوارع منطقة شرق صيدا التي تشمل حوالى عشرين قرية تقريباً، التغيير العمراني الطارىء مع بروز البنايات الشاهقة وازدياد الشقق السكنية والمحال التجارية، يرافقه نزوح اهالي هذه القرى الكثيف الى المدن، وخصوصاً بيروت، طوال ايام الاسبوع، تتخلله عودة خلال فترة الاعياد الكبيرة وبعض الاحاد، مما يجعل هذه القرى شبه خالية لا يسكنها طويلا سوى الشيوخ والعاطلين عن العمل.

عطالة واحتقان

بطالة مقنّعة تطغى على حياة شباب هذه المنطقة. فمعظمهم ترك المدرسة باكرا وقلة التحقت بالجامعات المجاورة ولكنها سرعان ما طلّقت العلم في السنوات الاولى بسبب اجواء الشعور بالضياع واللاجدوى الذي اصبح كالموضة، او لأسباب اخرى. اما الذين حصّلوا شهادات عالية (اجازة او ما يعادلها) ويقطنون القريّة، فلا تتجاوز نسبتهم العشرة في المئة.

هناك شبان انخرطوا في سلك الدولة (درك، جيش، جمرك، امن عام...) لتأمين معيشتهم، لكن معظمهم يقضي ايامه بثياب النوم امام المحال التجارية المنتشرة، راكنين سياراتهم مشرّعين ابوابها، ليخرج منها زعيق الطقاطيق ودوي ضجيجها المقزز. على شكل جماعات يتمركزون، ومنهم من اتخذوا بعض الزوايا "المشرفة" مركزاً حصرياً لهم، فيصفرون اثناء مرور احدى الفتيات في الشارع، وآخرون يرمونها بالنكات الجنسية مما حدا بالاهالي الى منع خروج بناتهم من المنازل بعد حلول الظلام الا في الحالات الضرورية.

يتباهى شباب القريّة مثلا بارتفاع نسبة المدخنين بينهم، لا بل اضحت السيجارة وشماً يتزينون به في وقوفهم وتجوالهم، ومعظم احاديثهم يغلب عليها الكلام السوقي اللاذع من شتائم وسباب. واحدهم في الامن العام يجيبك "لشو التعب والدرس طالما الويسكي والدخان والسهر مأمنين من معاش آخر الشهر" كاشفا عن استهتار مريع، فيما آخر يعلمك بمقولة شائعة لديهم "اذا ضاقت بك سبل العيش ما الك غير الدرك والجيش".

شهدت هذه المناطق في الفترة الاخيرة بيعاً متزايداً لأراضيها لعائلات مدينة صيدا من الطبقات المرموقة وذوي النفوذ المالي الواسع.

وأقدمت احدى سيدات القريّة على بيع احدى شقق بنايتها الى رجل مسلم من الجوار. وحدث ان استثمر صاحب الشقة الأمر فشيّد على سطح البناية مئذنة لتلاوة القرآن الكريم على امتداد النهار. مما سبب إزعاجاً كبيراً للأهالي الذين جسّدوا رفضهم واحتقانهم بتوزيع بيانات تدعو الى معاداة السيدة وتحقيرها. اما شخصيات القريّة فقاموا بتقديم الشكاوى الى محافظ القضاء ونواب المنطقة الى أن باءت شكاويهم بالفشل. وتنفيساً لاحتقانهم الملتهب قام الأهالي بوضع مكبرات للصوت على سطح الكنيسة علّها تجابه آذان المئذنة المقابل وتسكتها.

المقامرة البيتية

آفة أخرى تحفل بها قرى هذه المناطق وهي ألعاب المقامرة. والآفة هذه لا تكمن في اللعبة التي تجد المؤيد لها والرافض، بل في الطريقة التي تسير بها. أحد أهالي القريّة أوجز لنا وصفا عن امكنة هذه الألعاب التي تتخذ لها من بيوت الضيعة مكانا. لافتات او عناوين بارزة يستدل بها الى هذه الأمكنة. فهي تقوم على منطق الريبة والحذر والخشية كونها غير مرخص لها من الدولة. بعضها يعرف باسم صاحب البيت أو باسم كنيته العائلية. حين تزور تلك الأماكن توقن جيدا ان الغرفة التي تدور في رحابها اللعبة بعيدة عن الطريق العام ومحاطة بالستائر مع تعليق برنامج اللعب على جدران الغرفة اضافة الى أرقام هواتف اللاعبين وعناوينهم. أصحاب هذه البيوت اما لم ينجبوا أولاداً فتكون الزوجة هي الست أي زعيمة الحضور والكل يطلب خاطرها وخدمتها. أو يقوم الأولاد أنفسهم، اذا وُجدوا، بخدمة الضيوف وتأمين الراحة لهم. اما الذين لم يتزوجوا فاستفادوا من هذا الأمر "لضرب عصفورين بحجر واحد" فأضافوا الى هذه اللعبة مهنة الدعارة بعد منتصف الليل، الى ان دهمتهم الشرطة مرة فأقفلت بيوتهم. وهذا ما أشاع فضاء من الخوف والحيطة لدى باقي الامكنة التي تستقبل رواداً من مختلف الأعمار يغلبُ عليها من هم في حوالى العشرين أو فوق الستين من مختلف الطوائف. وكثيرا ما حدث، على قول احد اللاعبين، أن بيعت اراض الى أهالي الجوار تسديدا للخسائر. اما غير الراشدين فيرهنون سيارات أهلهم وبعض ممتلكاتهم من مجوهرات وكل ما قل وزنه وغلا ثمنه، بعدما يقومون بسرقتها خلسة، لأنهم لا يملكون المبلغ الكافي من المال للمشاركة في الألعاب التي تكثر في الأعياد الكبيرة.

مدرسة العسكر

لا تستقبل مدرسة القريّة الرسمية المدشنة منذ بضعة اعوام برعاية ودعم الرئيس نبيه بري، سوى نسبة ضئيلة من فتيان وفتيات القرية، رغم ندرة وجود المدارس الرسمية في المنطقة، اذا استثنينا مدارس الراهبات صاحبة التاريخ الطويل والعريق. الامر الذي يعزوه الاهل الى ازدياد نسبة الرسوب من طلابها في الامتحانات الرسمية او لأنها لا تخرّج سوى العسكر و"الاغبياء". الاسلوب التلقيني في التعليم لا يزال يطغى على اجواء المدرسة الرسمية التي بلغ اساتذتها شوطا من العمر لا يمكّنهم من متابعة الدورات التدريبية والمحاضرات الاكاديمية التي تعقدها وزارة التربية في سبيل تطوير مستوى مناهج العلم في المنطقة. وما يزيد الامر سوءا اصابة بعض المعلمين بأمراض نفسانية يبينونها لك من خلال وصفات طبية تتضمن ادوية اعصاب من الدرجة الاولى، فتلاحظ غضبهم ونرفزتهم وتأففهم المجاني بشكل متواصل. آخرون مصابون بالعرج او العمى... الأمر الذي يثير العجب ويخطر على بالك صور شباب البلد المتخرجين حديثا بمستويات عالية وكفاءات مميزة والذين يفتشون عن مدرسة توظفهم دون جدوى.

صفع الوجوه والرفس واللكم يختصر اساليب حوار الاساتذة مع تلامذتهم، وتأكيدا على ذلك تطور تلاسن بين استاذ وتلميذه حين امره الاول بالخروج من الصف لإحداثه ضجة، الى اللكم المتبادل على شكل مصارعة بينهما، فتحلق الطلاب مآزرين رفيقهم بالتصفيق والهتاف وشد الزنود. مصارعة لم تخمد شرارتها الا مع حضور المدير الذي اتخذ عقوبة بحق التلميذ تسببت بطرده النهائي من المدرسة فتضامن معه رفاقه واعتكفوا في بيوتهم وسط رضى الاهالي الذين يؤاسون انفسهم بالقول "هيك هيك بالنهاية رح يروح عالجيش يفل هلق". آخرون ينعتون المدرسة بمدرسة العسكر او مركز الشاويش او الكركول.

مشهد لا بد من التوقف عنده وهو طاولات الاساتذة التي تشهد عجقة فناجين "وركوة رايحة ركوة جاية" على قول احدى المعلمات. اما دفاتر التحضير الشحيحة الموجودة بخجل فسرعان ما تكتشف كيف "ان الدهر اكل عليها وشرب" حسب التعبير المأثور. فالاصفرار تآكلها وتركها في مهب كسل اصحابها وتقاعسهم عن اداء واجبهم المهني. وتأكيدا على نفاد الثقافة والتطور يكفي ان تلمح المكتبة التي لا تحتوي رفوفها سوى دفاتر التلاميذ من الاجيال السابقة وبعض كتب الالعاب والقصص المألوفة.

ملاهٍ ليلية قروية

الحدث الجديد الذي طغى على المنطقة هو ظاهرة افتتاح الملاهي الليلية التي بلغ عددها حتى الآن الأربعة. يرتادها شباب المنطقة ذكوراً واناثاً ليلة السبت للسهر في ربوعها. شرح لنا أحد الشباب برنامجها للسهر على النحو الآتي: تبدأ السهرة من الساعة السادسة بعد الظهر حين يتجمع الشباب في سياراتهم لبداية المشوار في أرجاء المنطقة والذي يحصل على وقع جعجعة أحد فرسان الغناء الجدد أو مواء احدى بطلات الاستعراض الطربي. هذه الجولة تستمر ثلاث ساعات مع ما يتخللها من فنون السرعة في القيادة والتشفيط التي أسفرت عن حوادث عدة. في تمام التاسعة ليلاً يبدأ التحضير للسهرة من خلال الاتصالات الهاتفية التي يجريها الشباب تأكيداً على وجود الجنس اللطيف. واذا استعصى الأمر تتم الاستعانة بمخيم مجاور للاجئين الفلسطينيين والذي يعجّ بالفتيات المولعات بالسهر مجاناً أو مقابل مبلغ زهيد من المال. ومن المشاهد التي لفتتنا أثناء تمضية سهرة في ربوع الملهى الصراع الذي حصل حوالى الثالثة بعد منتصف الليل بين شباب المنطقة وآخرين من مدينة صيدا الذين تم منعهم من الدخول، الامر الذي ولّدَ احتقاناً بين الطرفين وتطوّر الى عراك بالأيادي مع "كوكتيل" من الشتائم والسباب مسفراً عن عدد من الجرحى.

من المشاهد الأخرى البارزة في الملهى وجود أمّ مع ابنتها التي تُعتبر مركز الجذب الأول للشباب لما تلبس من ثياب تكشف عن معظم نهديها المنتفخين والقسم الأكبر من فخذيها ملوّحة بشعرها الاسمر الطويل أمام وجوه الساهرين وهزّها لردفيها بشكل مثير وسط جو من الصخب الموسيقي. هذه الفتاة أضحتْ مصدر جذب للعيون الجائعة التي لم تعرف الجنس سوى في أفلام الاباحة. ومن يريد قضاء الليلة معها يجب أن يحصل على الموافقة من أمّها مقابل مبلغ زهيد من المال.

قبل الخروج من الملهى قرابة الثالثة بعد منتصف الليل شهد الملهى صراعاً آخر بين فتى لم يبلغ العشرين من عمره وفتاة يافعة حينَ أبت هذه الأخيرة الرّقص معه فاعتبر هذا الأمر انتقاصاً من رجولته أمام رفاقه مما دفعه الى صفعها لا بل رميها أرضاً منهالاً عليها بالرفس واللطم. أما المغني الذي يحيي السهرة فيكثّف الأغاني الحزبية لمختلف الأحزاب ناقراً هكذا على الوتر الحسّاس الذي يثير شباب المنطقة ويشدّهم.

كشفت هذه الملاهي النقاب عن أنواع كبت وحرمان وجوع جنسيّ اضحت البطالة المقنّعة والأمية وقوداً لها.

أقوال أخرى تسمعها لاهجة على لسان الأهالي فتثير بك العجب والأسف. هذه الأقوال مصدرها الأخوية الموجودة في القريّة والمخصصة من الكنيسة لاستقبال الشبّان والشابّات بهدف ارشادهم الديني وتوعيتهم على أمور الحياة وصقل مواهبهم. لكن الشبان جعلوها مكاناً لطيشهم، وكثيراً ما كانوا يتركون أرضها طافحة بقناني الكحول الفارغة والمأكولات على أنواعها. وهذا دفع كاهن الرعية ولجنة وقف الكنيسة الى وضع الاخوية تحت الحظر ومراقبتها حتى اقفالها الا في المناسبات الدينية الكبيرة.

والمدرسة الرسمية
والمدرسة الرسمية


تعليقات: