لم نترك الوطن حين مضينا في طريق اللاعودة تنكراً له وزهداً في ترابه، كيف وهو مهد الطفولة ومرتع الشباب، ولنا فيه أحبة وأوفياء، ولنا في ترابه دماء وشهداء .. لقد ودعنا الوطن بعد أن أدينا قسطنا للعلى ووفينا العطاء ..

يخيب الأمل مجدداً بقيامة الوطن الأمّ وتبرز إشكالية كبرى تخنق كل حلم بنهضنه وتحوله إلى مثيل للأوطان القائمة على مبادئ القوانين والمؤسسات لا تقديس الرموز والزعامات..

لقد حلمنا بوطن يتسع لأحلامنا ومستقبل أبنائنا، ولكن للأسف أراده المتنفذون والحاكمون والماسكون بزمام الأمر شركة لمصالحهم وإرثاً لأبنائهم..

كنا نريده وطناً جامعاً لكنه تحوّل إلى مجمع يتنافس فيه طلاب السلطة مستخدمين كل الوسائل المشروعة والممنوعة للوصول إلى غاياتهم، مسخرين حتى الدين مادة إعلامية في خطابهم الدنيوي، مستثمرين حتى العناوين الكبرى للتطويع والتدجين والإخضاع والإقناع، ليولد بعدها الوطن المسخ على قياس مصالح الطغمة، ويكون المواطن المؤدلج شريكاً في الإثم ومعيناً على الخطيئة ..

نراقب عن بعد الكرنفال الانتخابي المضحك والذي يظهر حراكاً ديمقراطياً للوهلة الأولى وزحفاً نحو تحقيق التعددية التنافسية لبناء بلد راق ومستقبل واعد، ونستبشر خيراً بهذا الكم الهائل من الترشيحات من مختلف المكونات والطبقات والاتجاهات والقطاعات، ويزداد منسوب التفاؤل عندما نقرأ أسماء وعناوين الكتل المرشحة والتي ترشح بدورها فائضاً من الأمل والسعادة فلا نملك إلا الإسترخاء والتمني تماماً كحال صاحبنا الناسك وجرّة العسل..

ما يدعو للخيبة المضاعفة هو القانون الانتخابي المعتمد والمفصل على قياس الطوائف والأحزاب والأمراء، والذي يساق فيه الناخب المسكين كما تساق الشاة إلى المذبح بين فكي كماشة الأسماء والألوان المفروضة ليوقع ولسنوات على مرسوم إعدام أي فرصة في التغيير أو أي محاولة لقيامة وطن وكرامة مواطن..

هذا الواقع القائم والآتي يتحمّل فيه الشعب المسؤولية الأولى لأنه أول من سيجني الضرر ويحصد ثمار إعادة تكرير المكرر وتجريب المجرب، ولا يمكن إعفاء المواطن من جريمة تعطيل الوعي وتغليب المصلحة الفردية والآنية التي يمنيه بها المتسابقون للسلطة، فيستسلم للإغراءات وينتشي بالوعود وتسكره حماسة الشعارات، وتأخذه الحمية الطائفية والمذهبية والحزبية والمناطقية، فينسى تجارب الفشل السابقة والإفلاس إلا من الكذب والوعود، ويغض الطرف عن هوية ومناقبية ونزاهة من سيختارهم ليكونوا ولاة الأمر ويمضي مشحوناً بالغضب والحماسة ليأخذ مكانه وراء المتراس في معركة وهمية محكمة الإعداد والتمثيل والإخراج، مادتها الأولى البروباغندا المقروءة والمسموعة والمحكية والتي ساعات ما ينجلي غبارها ويظهر زيفها بعد إقفال صناديق الإقتراع..

لقد تسنّى لنا أن نطلع على أحوال الأمم والشعوب من خلال معايشتها عن قرب وملامسة تجاربها، ما أورثنا حسرة ومرارة على واقع الوطن الأمّ، هذا الوطن المسكين الذي ما زالت النفايات والكهرباء والخدمات الصحية والتعليمية تحتل صدارة الأحلام والوعود الانتخابية فيه، بينما أصبحت هذه الأمور في بلدان أخرى من بديهيات الحياة اليومية للمواطن وباتت البرامج الانتخابية في تلك البلاد تتجاوز بأميال عراضات الدين والمذهب والمنطقة والحي والشارع والتأمين والتخوين والتصديق والتكفير والتوثيق والتفسيق وو ..

أمام هذا الواقع والذي يبدو أنه قائم و متجدد ومستمر يبقى خيار الغربة هو الأحفظ للكرامة والأبقى على بقية الأمل إلى أن يؤذن مؤذن الوعي " أيتها العير إنكم لسارقون" وعندها نصبح وتصبحون على وطن...

*الشيخ محمد أسعد قانصو