يغادرون مدرستهم في المصيلح
بين ما يمليه الواقع المعيشي والاجتماعي لأبناء عشيرة «الكريدية» المنتشرة بين الوزاني وعين عرب في قضاء مرجعيون، والبحث المبكر عن عمل «ينمّي» شخصية الفرد ويعزز استقلاليتها، والرغبة الكامنة في «فك» الحرف وقراءة الكلمة، وجنوح القلة القليلة إلى مستوى تعليمي راق ومتقدم، يعيش فتيان وفتيات العشيرة في قلق دائم، وخصوصاً بعد يقين التجربة لمن عزّز تحصيله العلمي بمستوى جامعي متقدم، في انسداد أفق العمل الوظيفي.
ويرى أحد وجهاء العشيرة، المقيمة قرب حبوش، عزو الأحمد، «أنّ الإهمال في المدارس الرسمية وعدم المتابعة في بعض الأحيان من الأهالي، يدفع بعض التلامذة، إلى ترك المدرسة والتوجه نحو سوق العمل». ويوضح الأحمد «أنّ لا أحد يقصد المدارس الخاصة، بسبب الأوضاع الاقتصادية، فضلاً عن وجود مشكلة إضافية نواجهها كعشائر، وهي أنّ المدارس الرسمية المحيطة بأماكن تجمّعنا، لا تسمح لنا بتسجيل أبنائنا إلاّ بعد تسجيل تلامذة البلدة، ووجود أماكن شاغرة».
إلاّ أنّ النظرة السائدة لدى أبناء العشيرة هي أن العلم لن يحقق الطموحات، إذ يكفي «أن نفك الخط، ونتعلم القراءة والكتابة، لصعوبة العثور على وظيفة، ولكون غالبية العائلات تعتاش من العمل في المزارع ورعي الماشية، تاريخياً، وقد اعتاد الشباب هذا العمل ويفضّلونه. أما الفتيات، فيكفي أن تُنهي الواحدة منهن المرحلة المتوسطة لتنصرف إلى العمل المنزلي ومساعدة أهلها، أو لتتفرغ لزوجها المستقبلي. وقلّما نجد من أكملت تعليمها الثانوي أو الجامعي، بسبب الزواج المبكر الذي يبدأ من الرابعة عشرة في بعض الأحيان، و«لكن لا أحد يجبرهن على ترك المدرسة»، كما يقول الأحمد. ويؤكد أنّ الأطفال كافة يدخلون المدارس في سن الرابعة، ومغادرة المدرسة في سن مبكرة ناجمة عن قلة الوعي لا بسبب ضغوط الأهل.
محمود الأحمد (15 عاماً) ترك المدرسة هذا العام بعدما رسب في الصف السابع أساسي، ولم تفلح جهود شقيقته ووالدته في إقناعه بالعودة إلى المدرسة. يقول محمود: «لا أفكر أبداً بالعودة إلى المدرسة، ولا حتى بدخول المهنية. أنا أعمل حالياً في مزرعة والدي، ولست نادماً على هذا الأمر». ولشقيقته رأي آخر، فهي تلفت إلى «أنّ بعض أولاد عمه ورفاقه تركوا المدرسة قبله، ووجدوا عملاً، ولا شك في أنه يقلّدهم، ولكننا لسنا راضين عن الوضع، ونخبره باستمرار أنه سيندم في ما بعد، وأذكّره دائماً بما يقوله شقيقنا الأكبر الذي ترك المدرسة في الثانية عشرة، وهو يشعر بالندم».
من جهته، يسعى مركز كامل يوسف جابر الثقافي إلى احتضان المتسرّبين، بعدما التقى الاختصاصيون الاجتماعيون شباباً تراوحت أعمارهم بين الثانية عشرة والسابعة عشرة، يعملون في مركز تجاري في حبوش حمّالين. وتشير مديرة البرامج والأنشطة في المركز، ماريا الصبوري عاصي، إلى «أننا درسنا وضع الشباب الاجتماعي والتربوي، وقررنا العمل معهم من خلال دورات لمحو الأمّية، وتدريب مهني معجل (صيانة خلوي وتجميل)، تحت شعار «من العمل إلى التعلم».
واستمرت الدورات نحو تسعة أشهر، بالتعاون مع مؤسسة رينيه معوّض الاجتماعية، وفريق أكاديمي متخصص بالتعاطي مع الأولاد الأمّيين والمتسرّبين. وينظّم المركز نشاطات لاصفّية ورحلات ترفيهية، من أجل تأمين استقطابهم، ما أدى إلى تغيّر حياة العديد منهم، كما تقول عاصي. فبدلاً من أن يكونوا باعة متجولين أو عاملين في مهن صعبة تؤثر سلباً على نموّهم العقلي والجسدي، فتحت الدورات أمام البعض آفاقاً جديدة للعمل، وشجعت البعض الآخر على إكمال الدراسة، وحمتهم من خطر التسرّب بسبب ضعفهم. وكان لافتاً أن يتحدث باسم المتخرّجين فتى كان أمّياً.
لكن ثمة التزاماً بين الظروف الاجتماعية لأبناء العشيرة وأحلامهم غير المتفوّقة على نطاق عمل جدودهم وآبائهم، التي قد تكون هي الأخرى سبباً في التسرّب المدرسي المبكر.
تعليقات: