أم علي
من المماليك إلى الملك
القاهرة:
من قال إن الطعام هو بالنسبة للإنسان مجرد مضغ وهضم يقي لسعة الجوع؟، الطعام في كثير من الأحيان هو رمز من رموز الأمم والثقافات، ومن خلاله يستطيع الراغب تمييز هذه الثقافة عن تلك، بل حتى داخل البلد الواحد، وفي الأكلة الواحدة يستطيع المراقب، الخبير، تمييز بهارات وطريقة إقليم عن إقليم، كما في الكاري الهندي واختلافاته.
بل للطعام تاريخ يماشي تاريخ الأمم، كما في «سلسلة أيام مصرية» التي خصصت احد إصداراتها عن الطعام المصري، تحت عنوان «المصريون والطعام من المماليك إلى الملك».
وفي عناوين داخلية نجد كلاما عن تاريخ الطعام المملوكي، حيث تبرز حلوى «أم علي» سيدة الحلويات العربية، ونجد حديثا عن «البرقوق» وعلاقته بالسلطان العنيف «برقوق»، ويبدو أن تاريخ المماليك مع الطعام مثير، لكنه ليس دائما بطعم «أم علي».
فأشهر مذبحة للمماليك، التي قام بها والي مصر محمد علي باشا في القلعة، كانت على شرف طعام فاخر، لكنه فخ، أعده لهم باني مصر الحديثة. ليس هذا وحسب، بل من خلال «سلسلة أيام مصرية» نتجول داخل المطبخ الملكي المصري، وداخل أسرة محمد علي باشا، وصولا إلى الملك فاروق.
غلاف الدورية مزين بصورتين، بالأبيض والأسود، العليا للملك فاروق، بنظارته ولحيته، وهو يقدم الطعام لضيوفه على إحدى الموائد الرحمانية في رمضان، وفي الصورة السفلى أطفال من التاريخ المصري العتيق، ونجد شيخا مع أسرته يأكلون على «طبلية» بزيهم القديم.
وفي مقدمة الإصدار إشارة إلى «أسياد» المطبخ الملكي، حيث كان يعيش أشخاص داخل القصور الملكية يحكمون ويتحكمون، لكنهم في النهاية بشر يهتمون بشؤون المطبخ ونوعية الطعام.
وتمثل الحفلات الملكية جزءا مهما من سلوكياتهم السياسية فعن طريقه، ومن خلاله، تدور مناقشات ترسم سياسات، ومؤامرات تطيح بأشخاص ووزارات. وعلى أصوات قرقعة أطباق الطعام، المتنوعة، التي تتوالى على المائدة الملكية يتم اتخاذ قرارات الحرب والسلام، والزواج والطلاق.
لكن بعيدا عن التاريخ القريب، وإيغالا في الماضي البعيد، تبرز قصة مشوقة لنشأة حلوى «أم علي»، وخوف المصريين من «البرقوق». وللبرقوق، المعروف شعبيا باسم «المشمش» قصة تستحق أن تروى، فعندما تولى الملك الظاهر سيف الدين برقوق حكم مصر عقب عزل الملك الصالح أمير حاج، أظهر المملوك برقوق شدة في بداية حكمه سنة 784 هجرية، فقبض على كثير من أمراء المماليك ونفى البعض، وخافه المصريون. وعن ذلك يقول المؤرخ ابن إياس: «دخل الرعب في قلوب الرعية والعسكر منه حتى كان العوام يقولون للفكهاني عندك شقير؟ ولا يقولون «برقوق» تعظيما لاسمه».
وعلى إثر ذلك توارى اسم البرقوق فترة طويلة بدافع الرهبة، لكنه عاد تدريجيا لهذه الثمرة، بعد زوال شبح الخوف من «سيف الدين برقوق».
أما حلوى «أم علي» فهي نسبة إلى زوجة عز الدين أيبك، أول سلاطين المماليك بعد الأيوبيين، وهو زوج شجرة الدر، التي تزوجته بسبب رفض مماليك الشام أن تتولى حكمهم امرأة، وبعد تزوج عز الدين أيبك لأم علي غضبت شجرة الدر وانتقمت منه.
فقامت ضرتها أم علي بتدبير مكيدة ضدها، وقتلتها، ثم نصّب ابنها علي بن عز الدين أيبك سلطانا، وبهذه المناسبة أمرت والدته بخلط كل الدقيق مع السكر والمكسرات، إلى آخر مقادير أم علي، وتقديمها للناس، وبهذا الحفل الدموي الانتقامي المعجون بكيد النساء، دخل هذا الطبق الشهير إلى المطبخ المصري، ومنه إلى العربي بشكل عام. فباتت أم علي لذة مكيدة.
أما عالم الطباخين المهرة، ففيه من القصص الجميلة، حيث بلغ أحد الطباخين شأنا عظيما أيام السلطان الناصر قلاوون، وهو علي الطباخ وقام بإلقاء الضوء على حياته المؤرخ المقريزي، وكان السلطان يكرمه كثيرا، وسلمه المطبخ السلطاني لمدة طويلة، حتى كثر ماله، وأجاد في تمكنه.
ولعلي الطباخ قصص وحكايات، بل طبخات، تنم عن نفوذه الذي تجاوز حدود مطبخ الأكل، إلى مطبخ السياسة والثراء، يرويها المقريزي بتفصيل.
أما أشهر وليمة في تاريخ مصر، فهي الوليمة، المذبحة، التي أولمها محمد علي باشا لمنافسيه من أمراء المماليك، وهو الذي تولى حكم مصر سنة 1805 رغما عنهم، إلا أن المماليك كانوا يملكون قوات خاصة بهم وينغصون على الوالي الباشا.
واحتار محمد علي في كيفية التخلص من خطرهم، وحينما طلب الخليفة العثماني من واليه على مصر محمد علي باشا تسيير حملة عسكرية إلى الجزيرة العربية لمحاربة من أسموهم «الوهابيين» وجد الباشا أن الفرصة سانحة لإيقاع المماليك في الفخ، كما انه شعر بالخطر الداهم في ما لو أخلى مصر من جيشه، فإنه سيصبح لقمة سائغة في فم المماليك، فدعاهم لوليمة كبرى في القلعة، بمناسبة توديع الحملة التي يقودها ابنه طوسون باشا، فظن المماليك أن الباشا قد رضي عنهم، فركبوا خيولهم ولبسوا أحسن ملابسهم، ممنين النفس بجلسة ود، وطعام ملكي.
صعد المماليك للقلعة حيث استقبلهم الباشا نفسه، ورحب بهم مقدما القهوة، وطلب منهم بلطف الانضمام لموكب ابنه طوسون كنوع من التكريم له، فلم يمانعوا، فالاحتفال ما زال طويلا واستأذنوا من الباشا لأخذ مكانهم في طابور الانتظار للموكب.
أثناء سير الموكب العسكري دخلوا في ممر، فتم إغلاق بابه الأمامي عليهم وفصلهم عن بقية الموكب، ثم أحاط بهم جنود الباشا، وأمطروهم بالنار، فحصد منهم أكثر من 450 شخصا وخرجوا من القلعة جثثا وباتوا وليمة للمدافن المجاورة، بعدها بات عشاء الباشا محمد علي أشهر وليمة دموية في التاريخ المصري.
ويبدو أن الباشا محمد علي كان له تاريخ مع الطعام، فحسب رسالة أرسلها هو نفسه إلى ابنه محمد سعيد باشا، تظهر فيها الكثير من النصائح حول الانضباط في الطعام، للابن سعيد، الذي حكم مصر لاحقا، وقد كان والده يجهزه عسكريا، إلا أن الأمير محمد سعيد كان ضعيفا أمام الطعام، خصوصا المعكرونة.
ووقتها ربط العامة بين الأمير محمد سعيد والمعكرونة، الأمر الذي جعل والده يوبخه في رسالة قال فيها: «سبق أن نبهنا عليك بدوام الانتباه للدرس والسير بالمشي والحركة لعدم حصول السمن اللازم».
ثم كرر عليه الانتباه للسمنة التي تسببها كثرة أكله، وقال انه سيأتي الاسكندرية شخصيا لمراقبته، كما نبه الباشا ابنه إلى الإصغاء لمعلمه الصوفي فارس أفندي وعدم الأكل معه بالشوكة والسكين، لأن الأفندي يعتبر ذلك بدعة.
إلا أن عهد الملك فؤاد كان مختلفا، حيث كان تجهيز الطعام يتم في السراي، ويعده كبار الطهاة، الذين كانوا يتقنون أسماء الطعام بالفرنسية، وعندما يأتي الخبر للطهاة بوجود وليمة ملكية يقومون بوضع قائمة طعام «مينيو» ترفع «للأعتاب الملكية» فيصدر الرأي بالموافقة عليها، أو تعديلها.
وتبين أن القول بوجود شخص في السراي مخصص لتذوق الطعام وفحصه، فلم يكن إلا من خيالات الصحف الانجليزية عن الملك، جريا على خيالات الاستشراق عن أجواء ألف ليلة وليلة، كما تقول الكراسة المصرية.
لكن الكراسة تكشف انه كان هناك «لبن» خاص للأسرة الملكية المصرية، حيث يجلب من سراي القبة، ويعنى به خدم الخاصة الذين يربون أكثر من عشر بقرات يؤخذ لبنها للأسرة الملكية وينقل من سراي القبة إلى سراي عابدين بالسيارات مرتين في اليوم.
ولما رحل الملك فؤاد إلى لندن استصحب معه الخدم بقرتين من البقرات التي عنده في سراي القبة، واركبوهما في احدى البواخر التابعة لليخت الملكي «قاصد خير» ليجلب منهما اللبن على مائدة الملك المتنقلة.
وكانت مائدة فؤاد الأول فاخرة، ومشمولة ببرتوكول دقيق، حيث كانت تضاهي أعظم الموائد الملكية في أوروبا، فكانت كل أوانيه منقوشا عليها حرف الفاء، أول حرف من اسم فؤاد.
أما في عهد فاروق ابن فؤاد، وآخر ملوك مصر من أسرة محمد علي، فاستمرت هذه القواعد في المطبخ والطعام، سوى أن فاروق كان أكثر شعبية والتصاقا بالناس فأقام موائد للشعب، أعلن عنها في الصحف، وذكرت بالتفصيل أصناف الطعام المقدم. واشرف الملك فاروق في رمضان على هذه الموائد بنفسه، حيث يقدم الطعام بيده، وكان رئيس الطباخين في عهده «نوبيا» بينما كان في عهد والده فؤاد طباخا ايطاليا.
ومما له صلة بين فاروق والطعام هو التغير الكبير الذي طرأ على شكله، فقد كان فاروق حتى عام 1950 شابا وسيما رشيق الجسم، لطيف الملامح، لكنه بعد ذلك أصبح له كرش متهدل، وجسم مترهل، وشاع بين العامة أن سبب ذلك هو نوعية الطعام الذي يأكله فاروق وكمياته وطريقة إعداده.
الطعام من أيام المماليك إلى أيام الملك، كان في مطابخ الساسة، مغموسا بكل ما في السياسة من حلاوة ومرارة، وسخونة وبرودة، وفوران وركود.. وربما إلى هذا اليوم.
طريقة تحضير «أم علي»
* المقادير:
ـ 6 رقائق رقاق.
ـ 4 أكواب لبن محلى بالسكر حسب الرغبة.
ـ ملعقة زبد.
ـ ملعقتا زبيب ومكسرات.
ـ فانيليا.
ـ ملعقتا قشدة.
* طريقة التحضير:
1 ـ يحمّر الرقاق في قليل من الزيت، أو يتم تحميصه في فرن ساخن.
2 ـ يكسر الرقاق على هيئة شرائح كبيرة في طاجن متوسط الحجم ويوضع فوقها اللبن المحلى بالسكر بعد تسخينه، ثم تضاف المكسرات والفانيليا والزبيب وتوضع القشدة على وجه الطاجن.
3 ـ يدخل الطاجن إلى فرن ساخن حتى يحمر وجهه وتقدم الوجبة ساخنة.
تعليقات: