هل يمكن لبنان أن يسير على هدْي إرادة المانحين من دون أن يضطرب نظامه وتزداد آلامه؟ لهذا السؤال وقع خاص في المفترق المصيري الذي نحن عليه، والإجابة لا تبيّن فقط الرأي في سبل الخروج من المأزق، وكيفية تمويل حاجات السلطة، بل تحدد كذلك وجهة سير اللبنانيين نحو الوطن الذي يريدون، والدولة التي يأملون قيامها.
لدى الرئيس فؤاد السنيورة إجابته الخاصة، التي ضمنها دفاعه عن قرار وقف صرف التعويضات لمتضرري عدوان تموز، إذ أشار إلى أنّ «الهبة منذ كان الإنسان إنما تصرف حسب مشيئة الواهب»، ولا تخلو هذه «الحكمة» من صحّة، لكن الصحيح أيضاً أن الهبة لا تؤدي إلى الانتقاص من حقوق المحكومين لدى الحاكمين، وأنها تقوم على مبدأ المقايضة الصعبة والمساومة الباهظة. ثمّ إن تضخيم صلاحيات المانحين، على ما جاء في كلام الرئيس السنيورة، ينقلنا إلى منطق جديد يصبح القرار الوطني معه مجرد هامش صغير للقرار الخارجي، والدولة أداة ضامرة في لعبة التوازنات.
تتعدى مشكلة هذا المنطق حدود التحكم بالمصير الوطني. فبالنسبة إلى لبنان، المانحون في الاقتصاد، هم أنفسهم من يسمّون في السياسة المجتمع الدولي. أي إنهم موجودون بقوة في الداخل، يناصرون هذه الفئة أو تلك، ولهم رأي ودور، ويسعون إلى تغليب وجهة نظر على أخرى. إن ترك الأمر على عهدة المتبرّعين، والحال هذه، سيقسّم اللبنانيين بين محظوظين وغير محظوظين، بناءً على ميولهم وآرائهم، وسيوزّع القطاعات الاقتصادية بين قطاعات مركزية وأخرى مهمّشة، قياساً إلى مدى التزامها بمصالح الاحتكارات العالمية. إن مشيئة الواهب لن تقف عند حدود صرف الهبة، بل ستتلاعب مع الوقت بجينات النظام نفسه.
ما يزيد الأمر سوءاً هو أنّ الولاء للدول المانحة آخذ بالتصاعد، مع وجود استعداد مسبق لتلبية رغبات هذه الدول دون تردد. فالولاء للمانحين هو من الأسباب التي دفعت لبنان مثلاً للقفز بتهوّر من عربة الحماية الجمركية إلى تيار التحرير الشامل، وهو الذي حدا به إلى استدراج صندوق النقد الدولي لمزيد من التدخل مقابل قروض زهيدة، فباتت المعايير الماليّة وفقاً لتوصيات الصندوق هي الأساس في قياس تقدم الإصلاحات، من دون عناية لا بالمعايير الأخرى، و لا بنظام الأولويات الذي يمكن اللبنانيين أن يختاروه لو تُركوا وشأنهم.
بيد أن العلاقة بين المانحين وأهل السلطة في لبنان علاقة جدلية وذات طرفين. فالهبة ليست فقط قناة تمر عبرها إملاءات الواهب وتتجسد من خلالها مشيئته، بل هي أيضاً مبرر تتذرع به السلطة لكسب التأييد وترجيح آرائها على آراء معارضيها. سياسات الخصخصة مثلاً هي من هذا القبيل، حيث التقت مصالح الدول المانحة مع مصالح السلطة، ليوضع الإصلاح والمساعدات والخصخصة في سلة واحدة، وكذلك هو أمر الهبات والمساعدات المخصصة لإعادة الإعمار، التي يمكن اعتبارها قضية خاصة وحالة غريبة بعض الشيء. ففيما استعملت المساعدات في السابق من جانب المانحين لفرض سياسات وتوجهات معينة، ها هي تصبح اليوم جزءاً من الخلاف السياسي الداخلي، وسلاحاً محرّماً في حرب لا هوادة فيها. فالحكومة هي التي عمدت هذه المرة إلى تسويق الشروط لدى الجهات المانحة، وسعت بإصرار إلى إقحام الدول المموّلة في سياسات التوزيع التي تتبعها، طلباً للمساندة في مواجهة أصحاب الحقوق، وتبريراً للترتيب المقلوب للأولويات الذي تبنته. وهناك من المعطيات والأرقام ما يكفي لإثبات هذا التطور السلبي، الذي وضع المساعدات والتعويضات في إطار نموذج فئوي جديد للسلطة، قائم على الاستبعاد، بينما قام نموذج ما بعد الطائف على أساس مقايضات تراعي التوازنات الداخلية بدقة.
ومن الشواهد البارزة على ذلك: تخصيص حوالى ثلث المساعدات المتاحة للإنفاق على بنود صرف لا تقع في مجال إعادة الإعمار، وإبطاء وتيرة دفع التعويضات بحيث مرّ عام ونصف العام ولم يتخّط حجم المساعدات المصروفة نصف القيمة المستحقة، على الرغم من توافر مساعدات تساوي أكثر من 140% من قيمة الأضرار اللاحقة بالمساكن. ومن الشواهد أيضاً إسقاط حوالى 1.5 مليار دولار من آخر تقارير الهيئة العليا بعد أن وردت في تقاريرها السابقة تحت عنوان هبات وقروض لإعادة الإعمار، وربما ظهرت لاحقاً تحت عناوين أخرى، لا تمت إلى الإعمار بصلة.
إنّ إعلان الهيئة العليا للإغاثة امتناعها عن دفع ما بقي من تعويضات من دون مبرر مالي، وبالتعويل على إرادة المانحين، يخفي ثلاث حقائق خطيرة:
أولاً: التحريض على مزيد من الانشقاق الوطني، من خلال تحويل الأموال المرصودة لإعادة الإعمار من منطقة إلى أخرى، وثانياً: تهديد إحدى الركائز التي تقوم عليها فكرة الدولة، وهي حفظ النظام العام، وقد تجسّد هذا التهديد في ربط الحق بالتعويض بمدى توافر الأموال الخارجية، وثالثا:ً الخلط بين إدارة شؤون الدولة وممارسة السياسة، وهذا ما يتبيّن في تقليص السلطة الراهنة لنطاق رعايتها، ليقتصر شيئاً فشيئاً على المجتمعات والمناطق التي تمثّل من وجهة نظرها قاعدة نفوذ للفئات التي تشكلها، ولذلك تعاملت مع التعويضات كعبء زائد لا كحق لا يمكن التنكر له.
إن أزمة تعويضات حرب تموز تكشف دفعة واحدة عن ثلاثة عيوب تتنامى في جسد الدولة: سطوة المانحين، وتحلّل السلطة من مسؤولياتها السياسية والأخلاقية، وضعف تمثيل المصلحة العامة، وهذا ما يضعها على طريق التدهور. فالدولة التي لا ترغب بالتدخل، حتى في الحالات الطارئة، لن يكون بوسعها القيام بواجباتها الأخرى في الأمن الدفاع..، وستفتقد حتى لمقوّمات «الدولة الحارسة» التي تقف على أدنى الدرجات في سلّم
الدول.
تعليقات: