الرئيس الشهيد رفيق الحريري
في الرابع عشر من شباط فبراير عام 2005 حدث زلزال في لبنان كما قال حينذاك رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري. لقد اغتيل رفيق الحريري رئيس الوزراء السابق في لحظة مفصلية اقليمية دقيقة جدا، وبدأ باغتياله عصر الاضطراب السياسي في لبنان الذي مايزال حتى اليوم يعيش ارتدادات الزلزال عبر انقسام سياسي حاد يهدد وحدة البلاد ومسقبلها. والذين قتلوا الحريري نفذوا جريمتهم مع سبق الاصرار وهم يدركون ما فعلت ايديهم.
ومهما كان الموقف من الرئيس الشهيد رفيق الحريري مؤيدا لمشروعه في لبنان او رافضا له الا ان اللبنانيين على اختلاف انتماءتهم وتشكيلهم الطائفي والسياسي يدينون لهذا الرجل بانه صاحب حلم اعادة اعمار بلد هدمته الحروب والصراعات المسلحة.
وكلمة حق تقال لو ان الحريري مايزال على قيد الحياة لما كان الاصطفاف السياسي والطائفي في لبنان ياخذ هذا الطابع التقسيمي، لان الحريري من الرجالات اللبنانيين القلائل الذين يتميزون بعقلية تغليب منطق التسوية في ادارة الشوؤن على خلفية ان البلاد لاتحكم بمنطق الغالب والمغلوب.
وقد وجدت الطائفة السنية بالرئيس رفيق الحريري فرصتها لاعادة تموضعها في النظام السياسي، لكن يد الجريمة اطاحت مرة اخرى بحلم طالما راود السنة في لبنان بان يقفوا خلف زعامة تقودهم الى وحدة كلمة طائفتهم. فالرئيس الحريري اطل على اللبنانيين في اواخر الثمانينات من نافذة اتفاق الطائف اي الدستور الجديد للبنان الذي انهي الحرب الاهلية وادخل اصلاحات سياسية وادارية في النظام اللبناني مقلصة امتيازات الطائفة المارونية على قاعدة المناصفة في تقاسم السلطة بين المسلمين والمسيحيين.
وقدم الحريري نفسه كزعيم سني في اطار الصورة اللبنانية الجامعة، فكان زعيما بيروتيا مع انه صيداوي من جنوبي لبنان، تمركز في العاصمة لانها قلب لبنان ومعقل الاكثرية السنية. والزعامة لاتمر الا عبرها و رئيسا لوزراء لبنان مع الحفاظ على علاقة طيبة مع رئيسي الجمهورية الماروني ومجلس النواب الشيعي وهو ماعرف بالترويكا. وصاحب مشروع اعادة اعمار لبنان مستثمرا في سبيله علاقاته العربية والدولية الواسعة دون ان يدير ظهره لشركائه الاخرين في السلطة او الذين يمسكون مقاليد الامور. وحرص الحريري طيلة وجوده في الحكم وخارجه على ابقاء الخيوط مشبوكة مع الجميع حتى في اشد اللحظات توترا مع خصومه حاذفا من قاموسه كلمة قطيعة.حتى ان حزب الله الذي كان يعتبر الحريري صاحب مشروع تدور حوله الشبهات بكاه بعد اغتياله واعتبره شهيد لبنان.
هكذا عرف اللبنانيون الرئيس رفيق الحريري صاحب المليارات وصاحب رؤية بعيدة ورجل دولة يطرز علاقاته على رقعة التنوع اللبناني السياسي والطائفي. والذي يقرأ مسار حياة الحريري السياسية يلمس مدى الخسارة التي لحقت بلبنان باغتياله. فقد اغتيل الحريري في ذروة توتر اقليمي دولي انعكست مفاعيله السلبية على الساحة اللبنانية من خلال هجوم سياسي امريكي على الوجود السوري في لبنان وسلاح حزب الله والرد السوري بالتمديد للرئيس اميل لحود. وقد انتج هذا الاشتباك قرارا امميا حمل الرقم 1559 تمحور حول المحافظة على سيادة لبنان والدعوة الى انسحاب القوات الاجنبية اي القوات السورية ونزع سلاح المليشيات ويعني حزب الله، وكذلك طالب القرار باحترام المؤسسات الشرعية اي معارضته التمديد للرئيس لحود.
معارضو الحريري والذين يناصبوه العداء السياسي اشاروا باصابع الاتهام اليه على انه مهندس القرار بالتنسيق مع الامريكيين، ومن لحظة صدوره في العام 2004 بات الحريري هدفا لاطلاق النارالسياسي لاسيما وانه بدأ الصوت يرتفع مطالبا بانهاء مرحلة سميت بمرحلة الوصاية السورية على لبنان امتدت ثلاثة عقود مترافقا مع احتجاج على التمديد لرئيس الجمهورية اميل لحود كونه حليفا رئيسا لسوريا. ومع ان الحريري وقع على التمديد للحود تحت ضغط سوري الا ان موقفه بقي رافضا للتمديد مبررا موافقته على توقيع مرسوم التمديد على انها اضطرارية لحماية لبنان، وحاول الحريري في ظل الصدام السياسي هذا ان يتهيأبقوة للانتخابات النيابية في منتصف 2005 لكي يبت لاخصامه مجددا انه زعيم دون منازع، لكن الاغتيال انهى حياته قبيل اشهر من موعد الانتخابات. ومن لحظة تفجير موكب الحريري في الرابع عشر من فبراير انفجر لبنان سياسيا، واصبح لبنانان. واضطر الجيش السوري لترك لبنان على عجل وهو انسحاب لدور السوري السياسي والعسكري تحت ضغط امريكي فاحتفل المناهضون لسوريا بانتصار ثورة الارز لكن الاخرين كانوا يرون ان ثورة الارز المدعومة امريكيا دارت في حلقة مفرغة بعدما تمركزت في خندق مقابل للخندق الاخر. ولذلك لم يكن اغتيال الحريري سوى بداية دخول لبنان في النفق المظلم سقطت معه كل الضوابط فاصبح لبنان مكشوفا امنيا مكن هذا الانكشاف هز استقراره الامني عبر اغتيال عدد من الشخصيات ومحاولة اغتيال اخرين وسط حدوث تقجيرات متنقلة في حين ازدادت حدة الانقسام السياسي. وعلى الرغم من قيام تحالف رباعي انتخابي بين حزب الله وامل والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل على قاعدة لقاء سني درزي شيعي الا ان التطورات ادت الى انفراط عقد هذا التحالف مع تظهير مفزع لفتنة سنية شيعية بدأت تطل براسها، وقوة ارتدادها السلبية على المجتمع اللبناني تضاعف قوة الحرب الاهلية التي كانت محصورة الى حد كبير بين المسيحيين والمسلمين. فالصراع السني الشيعي هو صراع بين عائلة واحدة متداخلة بشكل كبير في السياسة والاقتصاد والتوزيع الديمغرافي. وعلى الرغم من ضبط التوتر السني الشيعي وعدم انفلاته على الانفجار الا ان التباعد مايزال قائما بين الطرفين ولم تنجح كل المحاولات في حصر الخلاف في اطاره السياسي لان لبنان مبني على التركيبة الطائفية وكل شيء فيه يتحرك وينطلق من عنوان طائفي.
في ظل هذا الواقع المظلم اخذت المؤسسات الدستورية تتهاوى واحدة تلو الاخرى فقد قاطعت الاكثرية النيابية التي تعرف بقوى 14 مارس رئيس الجمهورية الذي بنظرها رئيس معين من قبل سوريا وانسحب الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس السنيورة تحت عنوان عدم اتاحة الفرصة لهم لمناقشة محكمة الحريري الدولية. واعتبرت المعارضة ان المحكمة مسيسة وصحيح ان قيامها لمحاكمة قتلة الحريري لكن عينها على محاكمة مرحلة سياسية في تاريخ لبنان مرحلة مناهضة المشروع الامريكي، وباتت الحكومة في نظرهم حكومة غير ميثاقية وغير دستورية لابل حكومة السفير الامريكي جيري فيلتمان خصوصا وانها متهمة بوطنيتها في حرب يوليو 2006 بتناغمها مع الامريكيين والاسرائيليين في اهداف الحرب.
في موازاة ذلك اقفل رئيس المجلس النيابي باب المجلس ووضع المفتاح في جيبه. وبتعبير ادق اصبح لبنان مشلولا معطلا بمؤسساته وكل فريق يتمترس خلف مواقفه في حين عجلة انهيار البلاد تتسارع. لكن في حمأة هذا الصراع تكشفت الابعاد الحقيقة للخلاف اللبناني المحتدم انه خلاف على اعادة تركيبة لبنان وتركيبة نظامه السياسي وتحديد من يمسك بقرار الحرب والسلم في ظل وجود قوة حزب الله العسكرية التي استطاعت الحاق هزيمة موجعة باسرائيل. فالشيعة الذين يعتبرون ان الصيغة اللبنانية التقليدية المعتمدة تلحق غبنا كبيرا بهم وهم يطالبون بتعديلها وفق المعطيات الجديدة القائمة، يقابلهم المسيحييون بالمطالبة باعادة الصلاحيات المسلوبة من رئيس الجمهورية الماروني في حين ان السنة يطالبون بزيادة حصتهم في النظام السياسي. وابعد من ذلك هناك نقاش دائر في لبنان على دور لبنان وموقعه فحزب الله الذي يشكل راس حربة المعارضة مايزال يعتبره ساحة مواجهة ضد الامريكيين والاسرائيليين وان سلاحه هو لردع العدوان واذا حدث العدوان يصبح السلاح وسيلة لتغيير وجه المنطقة. بينما الفريق المقابل يطالب بتحييد لبنان عن الصراعات وان يكون في منظومة عربية مشتركة لمحاربة اسرائيل لان كفاه تدميرا وتحمل الضريبة عن الاخرين.
وبدل ان تصل جولات الحوار بين القادة اللبنانيين التي جرت قبيل حرب يوليو الى نظرة لبنانية مشتركة في هذا الاطار بلغت الامور حد تخوين والتشكيك بوطنية الذين يطالبون بنزع سلاح حزب الله او تحييده في حين ابدى الحزب استعداده لمقاربة مصير سلاحه لكن مشترطا البديل استرتيجية دفاعية تمنع الاعتداءات الاسرائيلية عنه، وهو ما يعني ان الحل عسكري اي بابقاء سلاح الحزب كوسيلة فعالة لردع العدوان طالما ان الجيش غير قادر على ذلك وفي ظل الرفض المطلق لاي حل سياسي لهذه المشكلة. فحزب الله ليس بوارد الانخراط في الجيش وليس ايضا تسليم سلاحه للدولة لان هناك ثقة مفقودة بالاخرين، والاخرين لايثقون بان الحزب سيبقي سلاحه بعيدا عن التاثير على تركيب المعادلات الداخلية، وهم يتهمونه بانتاج حجج للاابقاء على السلاح، بعدما قبل بالقرار 1701 الذي ابعد المقاومة عن خطوط المواجهة المباشرة مع اسرائيل، لكن الحزب يملك قوة اقناع بصحة موقفه بالبقاء على جهوزيته العسكرية طالما ان اسرائيل مستمرة في استباحة السيادة اللبنانية جوا وبحرا وبرا وتعلن استعدادها لشن حرب جديدة على لبنان ثأرا لحرب يوليو 2006. ووسط هذا الانقسام في الرؤية حول اي لبنان يريد اللبنانييون يدخل بلدهم مرحلة جديدة في تاريخه هي مرحلة الفراغ الرئاسي تزيد من مخاطر تفكك الكيان في ظل فشل المبادرات العربية والاجنبية لاعادة اللحمة بين اللبنانيين وجمعهم على صيغة تعايش مشتركة. فالفراغ الرئاسي اليوم في لبنان وان كان اللبنانييون قد اعتادوا على عدم وجود راس في هرم الدولة هو يهدد بقاء لبنان ووحدته على خلفية غياب المؤسسات الوحدوية الضامنة لكينونة البلد، وتزداد المخاطر على الكيان كلما ابتعدت فرص التلاقي بين اللبنانيين والتي تتيح للطوائف ان تعزز نفوذها على حساب الدولة الجامعة.
ويصعب رؤية حل قريب للازمة اللبنانية طالما ان الصراع الاقليمي الدولي محتدم على ارضه وفي المناطق الساخنة في المنطقة، كما ان التفاؤل بالحل ليس موجودا لان الظروف التي انتجت تسوية انهاء الحرب الاهلية في اواخر ى الثمانينات غير متوافرة بل مختلفة وعناصرها في صراع محتدم في حين كانت الحاجة سابقا ملحة الى تلاقيهم، وعدم رؤية اي بوادر حل للازمة اللبنانية يعني بقاء لبنان على حافة الهاوية في فوضى سياسية واضطراب امني يقرب البلاد اكثر واكثر من الانفجار الكبير.
* كاتب لبناني
تعليقات: