منذ فترة، تشهد سوق سندات الخزينة اللبنانيّة بالعملة الأجنبيّة (سندات اليوروبوندز) مساراً انحدارياً قاسياً، وصولاً إلى مستويات مقلقة منذ مطلع هذا الأسبوع. فماذا يعني اقتصاديّاً أن تخسر بعض سندات اليوروبوندز اللبنانيّة نحو 25.5% من قيمة سعر الإصدار الأساسي، أو أن يرتفع العائد على بعضها إلى نحو 11%؟ وما دلالة أن يرتفع هامش تداول أوراق التأمين على مخاطر هذه السندات إلى أعلى مستوى له منذ 10 سنوات؟
كلفة قاسية
للاستدانة، تصدر الدولة اللبنانيّة سندات اليوروبوندز وتبيعها بقيمة محدّدة، لتُدفع هذه القيمة لصاحب السند عند الاستحقاق، وفق آجال مختلفة. وبعد طرح هذه السندات للتداول في السوق، يتغيّر سعر التداول وفق آليّات العرض والطلب. وكلّما انخفض الطلب على السندات، انخفض معه سعر السند الحالي مقارنةً مع القيمة التي ستدفعها الدولة عند الاستحقاق. يعني هذا تلقائيّاً ارتفاع المردود المتوقّع على عوائد هذه السندات، أي نسبة الفرق بين قيمة السند الآن والقيمة التي سيتقاضاها عند الاستحقاق. أمّا ارتفاع مخاطر هذه السندات، فيؤدّي مباشرةً إلى ارتفاع هامش تداول أوراق التأمين على مخاطرها.
تختلف الأسباب، لكنّ النتيجة الطبيعيّة لهذا المسار هي ارتفاع فوائد اقتراض الدولة في المستقبل. كما سترتفع تلقائيّاً كلفة إعادة تمويل الدين العام. ومع ارتفاع هذه الكلفة، ترتفع فوائد الودائع والاقتراض للقطاع الخاص على حد سواء. وسيعني هذا زيادة أعباء تمويل المشاريع والاستدانة للمقترضين من جهة، ودفع أصحاب الرساميل إلى الإحجام عن الاستثمار لمصلحة الإبقاء على الودائع من جهة أخرى. في كل الحالات، انخفاض أسعار اليوروبوندز يعني وجود عامل ضاغط إضافي باتجاه الركود الاقتصادي.
أسباب محليّة وخارجيّة
تتنوّع الأسباب التي تقف خلف انخفاض قيمة هذه السندات في السوق. وتربط بعض التحليلات بين هذه التطوّرات وقيام المصارف اللبنانيّة بعرض سندات اليوروبوندز بكثافة للبيع لتوظيف العملة الصعبة في العمليّات الاستثنائيّة التي يقوم بها مصرف لبنان، والتي تؤمّن هوامش ربح كبيرة. هكذا، يكون قد أدّى هذا العرض الكبير مقارنةً بالطلب إلى انخفاض أسعار اليوروبوندز.
من ناحية أخرى، فإن الجزء الأساسي من هذه العمليّات الاستثنائيّة انطوى على قيام مصرف لبنان باستبدال سندات خزينة بالليرة اللبنانيّة كانت بحوزته بسندات يوروبوندز (بالدولار الأميركي)، وذلك لطرح سندات اليوروبوندز تدريجاً للبيع لزيادة احتياطي العملات الصعبة لديه. وهنا، ثمّة من يعتبر أنّ خطوة مصرف لبنان هذه لعبت دوراً إضافيّاً في خلق فائض في العرض في سوق اليوروبوندز.
في الواقع، تضخّم الدين العام الإجمالي، مقروناً بزيادة معتبرة في نسبة الدين بالعملة الأجنبيّة، أدّيا تدريجاً إلى حدوث تضخّم له أثر كبير في حجم سندات اليوروبومدز المعروضة. وهو ما كان بحد ذاته من العوامل الضاغطة خلال الفترة الماضية على أسعار هذه السندات. مع العلم أنّ ارتفاع مستويات الدين العام يشكّل أحد عوامل القلق لدى المستثمرين في السوق، خصوصاً بعد التحذيرات المتواصلة حياله من قبل جهات دوليّة.
العوامل الداخليّة نفسها تقاطعت مع عوامل خارجيّة بالغة الأهميّة. فارتفاع الفوائد خلال الفترة الماضية في السوق الأميركية، أدّى إلى توجّه عدد كبير من المستثمرين إلى نقل جزء من توظيفاتهم من سوق سندات اليوروبوندز اللبنانية. بالتالي، أدّت هذه الحركة إلى خلق فائض في المعروض من سندات اليوروبوندز في السوق.
في النتيجة، ثمّة منظومة ماليّة قائمة بأسرها على دائرة مفرغة من استقطاب التدفقات الماليّة والودائع لتمويل تضخّم الدين العام وإعادة تمويله، وجني الفوائد من ريع هذا الدين. وإذا كان شح التدفّقات الماليّة منذ العام 2011، وتضخّم الدين وكلفة إعادة تمويله، قد دفعا باتجاه عمليّات استثنائيّة ومكلفة في السنوات السابقة، فالأكيد أنّ تطوّرات الفترة الماضية تضيف أسئلة كبرى تتعلّق بقدرة هذه المنظومة على الاستمرار بهذا الشكل.
فهل سيستفيد من يعنيهم الأمر من هذه الأزمة لطرح الأسئلة المتعلّقة بسبل الخروج من هذه الدائرة المفرغة؟ أم سنتجّه كالعادة إلى المسكّنات الكفيلة بتمديد عمر هذه الدائرة المفرغة؟ وهل ندرك أن الإبقاء عليها يعني تضخيمها وبالتالي تضخيم تداعياتها المستقبليّة؟
تعليقات: