«وفرنا مائتين دولار بدل اتصالات، ولكن خسرنا بيوتنا، أولادنا، خسرنا حالنا». استوقفتني كثيراً هذه الكلمات التي تفضل بها أحد أساتذتي وهو يوّصف الواقع المزري الذي وصلنا إليه نتيجة الانبطاح الكامل أمام سلطان التكنولوجيا الضوئية، وحاكمية وسائل التواصل الحديثة.
بكل أسف لا بد من الاعتراف أن ما ظنناه مكسباً لنا أضحى وبالاً علينا، وما حسبناه خيراً لنا إنقلب شراً علينا.
نعيش اليوم في عالم المعلومات والتواصل الذي نسميه عالماً افتراضياً، ولقد استحوذ هذا العالم على كل أوقاتنا وتفاصيل حياتنا، اقتحم كل خصوصياتنا، كشف كل أستارنا، هيمن على عقولنا، تحكم بعلاقاتنا وبرامج حياتنا بحيث أصبح هو الحقيقة الساطعة وما سواه وهماً وافتراضا.
ما أخطه ليس اعتراضاً على وجود هذا العالم، ولا تنكراً للإيجابيات الكثيرة والتسهيلات الضخمة التي قدمها للحياة المعاصرة، وليست كلماتي دعوة لهجرانه أو نكرانه، وليست فتوى دينية بتكفير رواده، وإنما هي قراءة بيانية للإنعكاسات السلبية التي بدأنا نحصدها يوم قررنا الوغول إلى الدنيا الضوئية دون حصانة مسبقة، أو معرفة، أو حذر، أو خبرة ..
تشير الإحصاءات إلى نسب الجرائم المخيفة والتي تعتبر الشبكة العنكبوتية ووسائل الاتصال والتواصل الجسر المؤدي إليها والطريق المعبد لها، فمن الجرائم المالية وعمليات السطو على البنوك والحسابات المالية والاسهم الرقمية، إلى التتبع والتخطيط لعمليات الخطف والقتل والتفجير والارهاب، إلى الترويج للرذيلة والفساد والإباحية، إلى هدم القيم والمبادئ الأخلاقية والدينية والتربوية والاجتماعية، إلى الخيانات الزوجية وارتفاع معدلات الطلاق، إلى التفكك الأسري، إلى انحراف الشباب ودخولهم عالم المخدرات والجريمة، إلخ ..
كلّ هذا وربما الأسوأ منه في قابل الأيام هو حصاد التنكر للارتباط الوثيق بالله تعالى، وعدم الالتزام بالقيم الدينية الداعية إلى التعفف والترفع عن المحرمات والرذائل، وهجران العلم النافع، والثقافة المحصنة، والأخلاق الرادعة.
إنّ ما ندعو إليه ليس مجانبة التطور والانتماء لروح العصر، وإنما التيقظ والنباهة، والاستثمار الإيجابي والإنتاجي البنّاء للتكنولوجيا بما يعود بالفائدة والخير والنفع على أنفسنا وأجيالنا ومجتمعاتنا وأوطاننا.
أكرر القول إنّ آليات التعليم والتربية وعمليات التوجيه والإعداد ومخاطبة الجيل الحاضر في الوقت الراهن لا يمكن لها الاستغناء عن وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، ولكن شريطة الوعي والحذر والتسلح بالخبرة والحكمة.
ختام مقالتي لحظة اعتراف صادقة أننا بدأنا نشعر بالحنين إلى الأصالة والبساطة، إلى التواصل السمح بعيداً عن الأقنعة المستعارة والأسماء الوهمية، بدأنا نشعر بالحنين إلى التلاقي بأرواحنا وقلوبنا ووجوهنا وليس بكلمات مقتبسة أو رموز بيانية تعبر عن فرحنا وحزننا، حبنا وبغضنا، سعادتنا وتعاستنا ..
* الشيخ محمد أسعد قانصو
تعليقات: