..وكنا صبيحة يوم العيد نستيقظ قبل الشمس ونفتح عيوننا على فرح مستعار..
نتسلل إلى الخزانة حيث ملابسنا الجديدة ونجلس بهدوء غير معهود بانتظار أمي لنذهب سوياً إلى حيث شاء القدر لنا أن نستقبل العيد كل مرة..
وفي هيبة المكان نجلس والصمت سيد المجلس، وليس من كلمات سوى حشرجات أمي وحسراتها الشجية كتلاوة دائمة في حضرة الموت..
وتفوح رائحة البخور على وقع "إجا العيد وقلت العيد لصحابه، وشو نفع العيد عليّ مفارق احبابه"..
وبعد أن نفرغ ما في قلوبنا من حزن ونفوسنا من شوق، وبعد أن تنفذ دموع أمي على رخام علته الورود وشرائط الزينة، نعود إلى البيت وليس معنا من العيد شيئاً إلا توقّد الذكرى واستعادة من فقدناهم وفي العيد يبين الفقد ويكبر الجرح ويتجمّر القلب شوقاً ولوعة..
كما في كلّ عيد اصطحب أحمد ونقصد بعض الأقارب دون تخطيط مسبق طمعاً بالعيدية المرجوة، وإذا ما حوى الجيب ما تيسر من نقود نولي وجهينا ناحية محل الألعاب لنظفر بالبنادق والمسدسات أو الجنود والدبابات لنلعب لعبة الحرب التي كانت قدراً في وطن ليس إلا مساحة للموت والقتل !..
وبما أنني أصبحت شاباً في الثانية عشرة من العمر فقد كانت حصتي من العيدية أقلا، وكان أحمد يجود عليّ بكرمه ويصطحبني معه إلى المطعم وقت الغذاء، وكان يبدو حينها كطاووس أو كرجل أعمال ثريّ، كيف لا وهو الذي سيدفع الحساب في نهاية العزومة الأخوية ..
وهكذا ينقضي العيد ونعود عند المساء نلتحف يتمنا ونبحر في مركب أحلامنا التائه في مستنقعات القدر المخيفة التي تنتظرنا..
لقد رحل أحمد يوم العيد ورحل العيد معه، كان وقع الموت في العيد مخيفاً، قاسياً، تشظت كلّ الذكريات، تلطّخت حتى الطفولة بالدّم، تلوّنت ثياب العيد بالأسود القاتم، تحطّمت كلّ الألعاب، وبقيت كرسيّ أحمد في مطعم القرية فارغة تنتظر لقاءنا الذي لن يتكرر ..
هنا في الغربة استجمع ذاتي المبعثرة واستعيد بشغف صورهم، ليس سهلاً أن تبقى وحيداً وعينك على عقارب الساعة وعداد الأيام ومحطة القطار الأخيرة تحملك إلى حيث اللقاء ..
من صفحات المتبقي ...
* بقلم الشيخ محمد أسعد قانصو
كل عام وأسرة خيامكم بألف خير ..
تعليقات: