حسين عبدالله
خطورة الاشكالات الأمنيةالتي حدثت وتحدث في بيروت، وتحوّل شوارع العاصمة الى ساحة للمطاردات واطلاق النار، ليست في أن المعارضة و الموالاة يحوّلان الاحتقان السياسي الى احتكاك ميداني، إنما الكشف بوضوح عن الانقسام الحاد في صيغة العيش المشترك التي تشكل الكيان اللبناني. و يتعرض اليوم لاصعب اختبار في تاريخه اختبار الحفاظ على ديمومته ووحدته.
والمشكلة في ما يجري هو وجود مناصرين لمفهوم ان الحرب الاهلية ممر اجباري للوصول الى حل وتسوية للازمة التي يعيشها لبنان حاليا لا بل انها قدر اللبنانيين دائما لوضع حد للخلافات بينهم لاخيار.
ولم تعد الحرب مجرد خطوط تماس ولا مناطق منفصلة عن بعضها البعض وانما احياء وبنايات ومنازل منخرطة في معمعة داخلية تقطع صلات وعلاقات نسب ومصاهرة واقتصادية واجتماعية عمرها مئات السنين. فلقد كانت الحرب الاهلية قبل ثلاثة عقود ونيف حربًا بعناوين فلسطينية والدفاع عن السيادة اللبنانية في وجه الاجتياح الفلسطيني لها مع مساندة لبنانيين لهذا الاجتياح وتخليهم عن الكرامة الوطنية. فيما كان هؤلاء ينعتون الاخرين بانهم يريدون ذبح الثورة الفلسطينية وتمرير الحلول السلمية مع اسرائيل وكان العنوان الداخلي اللبناني المتعلق بالاصلاحات الدستورية ثانويا ليس الا. لكن اليوم المشهد مختلف العناوين المرفوعة مغايرة حتى الخطاب السياسي من النخبة والقادة ينفخ في نار الفتنة على خلفية الدفاع عن المذهب والحي وسط انفلات الجنون من عقالها فبات المتحدث بلغة وطنية جامعة يطلق كلاما في البرية لا أحد يسمعها ولا يصل صداها لأحد، وكأن الداعين الى الحرب الداخلية والنافخين بنارها سواء عن عن قصد او غير قصد لم يقرأوا جيدا نتائج الصراعات المسلحة والحروب الداخلية التي عاشها لبنان بأن الاقتتال او الاحتراب كما كان يسميه المرجع الشيعي اللبناني الشيخ محمد مهدي شمس الدين هو بين عائلة واحدة التي هي العائلة اللبنانية، والتي لا مناص امامها سوى الوحدة وادارة امورها بالديمقراطية التوافقية التي لا ترجح كفة طائفة على طائفة اخرى.
لقد شهد لبنان منذ نشأته في العصر الحديث مشاكل «خلقية» عديدة اذا صح التعبير تركزت في معظمها في التنوع الطائفي الموجود على اراضيه والذي استظل بصيغة العيش المشترك التي جمعت الطوائف ولم تقيّم وطنًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. ووجدت الطوائف في الصيغة المذكورة تسوية تاريخية مؤقتة فهي ليست مثالية لكنها في الوقت نفسه ليست رديئة وأنها قد تصلح لتسوية القضية العربية المركزية القضية الفلسطينية من خلال قيام دولة تجمع اليهود والمسلمين والمسيحيين على ارضها. ولطالما اتهم اللبنانيون اسرائيل بمحاولة نسف الصيغة اللبنانية لنسف مفهوم الدولة الواحدة على ارض فلسطين، لكن عمليا اسرائيل قادرة على تخريب التعايش اللبناني اذا كان اللبنانيون حريصين عليه ولا لبنان الوحدة وطنية في مهب الرياح اذا ما اقتنع اهله بانه وطن نهائي لهم فعلا لا قولا وان كان جاء ذلك في مقدمة الدستور. ولكي تكون الواقعية مسيطرة فان هناك فعلا مخاوف تجتاح اللبنانيين اليوم من ان يكون لبنانهم قد دخل فعلا في المحظور، فمؤسساته معطلة وابناؤه منقسمون على بعضهم. والأخطر من ذلك ان الثقة بينهم انعدمت فلا معسكر المعارضة على اقتناع بلبنانية معسكر الموالاة الذي يتهمه بانه تابع للامريكيين، ولا معسكر الموالاة مقتنع ان المعارضة ليست ادوات ايرانية سورية. وقد تتقاطع مصالح هذا الفريق او ذاك مع جهة اقليمية او دولية، لكن الخيانة ليست بهذه البساطة لاسيما واذا كان التخونيون يتحدثون دائما عن ضرورة لقاء الفريق الاخر في صيغة مشاركة وفي حكومة واحدة ومجلس نيابي واحد تحت حجة أنهم لا يمكنهم تجاوز الخصوصية اللبنانية او كما يقول احدهم هذا هو لبنان. نعم لبنان لديه خصوصية وفرادة الا انها لا تسمح ولا تجيز اتباع سياسة التخوين وحين تتبدل الاحوال وينقلب الخلاف الى تسوية نصبح شركاء في وطن واحد. فالخيانة الوطنية والارتهان للاجنبي جناية بحق الوطن والمواطن وصاحبها مصيره السجن. من هنا حين ينحدر القادة والساسة في لبنان الى منحدر تصغير لبنان الصغير اصلا جغرافيا وتفصيله على مقاس المذاهب، فيصبح الهمّ الوطني لدى المناصرين وهم كثر في ميدان الولاءات الزعامتية هو الدفاع عن الحي و الزعيم الذي تحوّل مناصروه الى اقل من قبائل وعشائر لان العشائر والقبائل لها نمطها وتقاليدها التي تحترم الاخر بينما المشهد اللبناني الان هو عبارة عن قبائل مذهبية تحركها الغرائز والعصبيات والخلاف على صورة الزعيم هذا او ذاك، ووقودها فتيان لا يعرفون ولا يدركون ابعاد ما تقترف ايديهم من اعمال تخريب وسط ارتفاع متزايد في منسوب التحريض على الاخر. فلبنان لم يمر في تاريخه بمرحلة انحطاط على صعيد المفهوم الوطني مثل التي يمر بها اليوم بحيث ان الولاء انحدر نحو الاسفل فعادت الى التداول كلمات الفيدارلية والطلاق الحبّي وغيرها من الطروحات التي تنحدر بالصيغة اللبنانية نحو الاسفل بدل ان تسمو وترتفع الى الرابطة الوطنية الجامعة. والمطالبون بالفدرالية يدركون ان صغر حجم لبنان لا يشكل عنصر حياة لهذا الطرح كما ان التداخل على المستويات كافة بين ابناء الشعب اللبناني يجعل اي طرح غير وحدوي يفتقد الى الواقعية. وان كان البعض يذهب في تزيين فكرة الفيدرالية والطلاق الى تنوع الثقافات وتعددها، فان ذلك ليس مبررا لا بل يجب ان يكون ذلك عامل قوة ودفع لوحدة اللبنانيين وتعزيز نقاط التوافق. ولا يمكن بحال من الاحوال تنامي الطروحات التي تثير الخلافات بين اللبنانيين الا في مناخ مسموم كالذي يعيشه لبنان حيث يتقدم خطاب تحريض الاخ على اخيه والجار على جاره على الدعوات للعودة الى المواطنية والوطن كمرجع وسقف وملاذ. والمعضلة ان صوت الجنون هو الذي يستبيح الساحات الان، وأن فتية قد غرّر بهم كما يقول الرئيس سليم الحص يسيطرون على الشوارع ويفرضون تصوراتهم وتطلعاتهم التي رأوها في الخطب والتعبئة السلبية المستمرة. ولذلك فان المعضلة ليست في شبان متهوّرين يركبون راسهم ولا يدركون بالتأكيد معنى انفراط عقد الوحدة الوطنية، وانهيار الكيان اللبناني، ولا يعرفون من هولات الحروب ومآسيها شيئا لأنهم لم يعايشوا التجارب المرّة والمريرة التي عاشها اللبنانيون في مراحل الاحتراب والتقاتل. ومن المؤسف ان ثقافة الشحن الطائفي والمذهبي تتمركز بين نخب المجتمع اللبناني وهذه معضلة من الصعوبة ايجاد حلول لها، لان النخبوي لديه القدرة على ايصال افكاره الى الاخرين بخلاف المواطن العادي الذي يبقى حسّ التسامح غالبًا لديه. واستمرار الضخ المذهبي والطائفي سيؤدي حتمًا الى الحديث عن صيغ جديدة على وقع ابتعاد اللبنانيين عن بعضهم البعض أكثر وأكثر. وقمّة المأساة أن اللبنانيين تسحرهم الخطابات التحريضية التي هي قنابل موقوتة لتفجير الكيان الواحد الموحّد. وأحدهم قال ذات يوم : أُفضل لبنان وطنًا للجميع، نعيش فيه في خيم، على بلد مقسّم نسكن الابراج فيه، الابراج العالية.
تعليقات: