الدبلوماسي الفلسطيني الدكتور لؤي عيسى
بلغة واضحة وعميقة، ومفعمة بالتحدي والأمل، أجاب الدبلوماسي المثقف الحيوي الدكتور لؤي عيسى السفير الفلسطيني في الجزائر، على أسئلة القناة الأولى في الإذاعة الوطنية الجزائرية
فلسطين رافعة استنهاض الأمة أو سبب انتكاستها
حول مستجدات القضية الفلسطينية، أكد الدكتور لؤي أن فلسطين والقضية الفلسطينية كانت ومازالت قضية الأمة العربية المركزية، وأن نهوض الأمة وانتكاستها يرتبطان بصورة وثيقة بقدر اقترابهما او انفصالهما عن فلسطين وقضيتها. كافة المحطات التاريخية للعرب وفلسطين اثبتت بالملموس والوقائع صحة هذا الترابط.
الثورة الفلسطينية ومنذ انطلاقتها تسعى إلى إعادة فلسطين إلى خارطتها العربية، وبهدف تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في التخلص من الاستعمار الصهيوني، وبناء دولته على أرضه التاريخية وعاصمتها القدس، ثم تحقيق السلم والسلام والاستقرار في المنطقة. وفي كل مرحلة من المراحل النضالية للقضية الفلسطينية كانت القيادة الفلسطينية تتوقف أمام ما تم إنجازه، وتجري مقاربات للتطورات الإقليمية والدولية، ولميزان القوى الذي لم يكن يوماً في صالح القضية الفلسطينية، بهدف استنباط آليات نضالية جديدة تتناسب مع ما استجد على الظروف التي تتشابك مع القضية الفلسطينية، والتي تفرض واقعاً جديداً يتطلب قراءة ومقاربة مختلفة.
إن قضيتنا الوطنية تتفاعل وتتاُر بكل ما يجري في محيطها العربي بحكم الارتباط الوثيق بينهما، والعلاقة جدلية تبادلية، فإن كان تمكن العرب من تحقيق استقرار سياسي وازدهار اقتصادي وتطور علمي، سينعكس هذا على الحالة الفلسطينية إيجابياً ويمدها بأسباب القوة، والعكس صحيح، لذلك فإن الحالة العربية الراهنة التي تمزقها الانقسامات والصراعات المذهبية والعرقية والطائفية، وتفتتها الحروب الأهلية، وأصيب نسيجها الاجتماعي بالعطب، ووحدتها الداخلية في مقتل. كل هذا ألقى بثقله على القضية الفلسطينية التي تحولت من كونها مركز جاذب للعرب إلى كونها موضع تجاذبات بين الأشقاء العرب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الانهيارات التي أصابت جسد الأمة العربية وأضعفته انعكست في صالح العدو الصهيوني، وأدت إلى مزيد من العربدة والاستبداد الذي يقوم به هذا الكيان الغاصب بحق شعبنا الفلسطيني وبحق بعض الدول العربية، كما أن هذه الانقسامات العربية كانت واحدة من أهم أسباب التراجع الدولي المساند للقضايا العربية وأهمها القضية الفلسطينية، ثم في النهاية انعكس المشهد العربي بكافة تعقيداته وتشابكاته في البيت الفلسطيني الداخلي الذي مازال يعاني من حالة انقسام لسنا فخورين بها.
القدس أمانة بين أيدينا ونعاهدكم أن نظل أمناء عليها
كما تكابد الدول العربية الصراعات الجانبية وتغرق مع شعوبها في بحيرة من الاحتقان السياسي والاقتصادي والأمني والطائفي، فإن الإقليم يقاسي أيضاً من تجاذبات عرقية ومذهبية، وكذلك تشهد منطقتنا العربية تنافساً بين الدول العظمى التي تسعى للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية لسرقة ثروات ومقدرات المنطقة، ولم يعد التنافس اقتصادياً، بل أصبح له امتدادات وتشعبات أمنية وعسكرية تظهر بوضوح في التواجد الحربي بالعدة والعتاد للعديد من الدول الغربية. كما عانت منطقتنا من هجوم ثقافي بغية خلط المفاهيم الفكرية والإساء إلى العرب والمسلمين وإلصاق صفة الجهل والإرهاب بهم.
نحن نرى أن هناك محاولات حثيثة تجري من قبل القوى الكبرى لإعادة رسم ملامح المنطقة العربية، وترتيب مكوناتها بما يتناسب مع تحقيق مصالح هذه الدول.
فيما يرتبط بالقضية الفلسطينية، فإننا نعبر في هذه المرحلة الراهنة أزمة خطيرة وصعبة وغير مسبوقة، سببها الرئيسي المبادرة التي تقدمت بها الإدارة الأمريكية الحالية، وعرفت بصفقة القرن، والتي تتجاهل تماماً الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، التي قاتل لأجل تحقيقها أكثر من نصف قرن، وقدم الشهداء والتضحيات الجسيمة في درب الحرية، وأهم هذه الحقوق أن تكون مدينة القدس الشريف مدينة عربية وعاصمة للدولة الفلسطينية. وقضية سبعة ملايين لاجئ فلسطيني مشتتين في بقاع الكرة الأرضية، وحقهم في التعويض عما أصابهم نتيجة النكبة، وحقهم في العودة إلى بيوتهم الأصلية، حسب قرارات الشرعية الدولية. وكذلك تتجاهل المبادرة الأمريكية قضية المستوطنات الصهيونية التي تم بناءها -وما زال متواصلاً- على الأراضي الفلسطينية، ولا تعترف بها سوى الولايات المتحدة.
مبادرة الصفقة النهائية التي تفرض عليها أمريكا طوقاً من السرية والكتمان حول تفاصيلها، رفضتها القيادة الفلسطينية بصيغتها الحالية رفضاً قاطعاً، وانقسم العرب حولها بين رافض ومتحفظ، فيما تعاونت بعض الدول العربية على تسويقها.
الولايات المتحدة التي اعتبرت موقف القيادة الفلسطينية الرفض لمبادرتها على أنه غير مسؤول ومعادي للسلام، تمارس ضغوطاً كبيرة غير مسبوقة من أية إدارة سابقة، على الفلسطينيين للموافقة على رؤيتها لحل الصراع الفلسطيني الصهيوني.
وتنظر الإدارة الأمريكية إلى لجوء القيادة الفلسطينية للمنظمات والهيئات الدولية على أنه تصرف لا يخدم عملية السلام. بل وتقوم بالتهديد والعربدة كما حصل حين توجه الفلسطينيين إلى محكمة العدل الدولية لمقاضاة الكيان الصهيوني.
نحن كفلسطينيين لدينا ثوابت في مسيرتنا الوطنية، ولا يمكن باي حال أن تقوم القيادة الفلسطينية بالتنازل عن واحد من هذه الثوابت، وأهمها أن القدس عاصمة لفلسطين، فالمسجد الأقصى أمانة في أعناقنا إلى يوم الدين، ولن نفرط بهذه الأمانة مهما عظمت التضحيات، واللاجئين وحقوقهم قضية مقدسة لا يمكن العبث بها، وكذلك الأمر فيما يتعلق بحقوقنا الأخرى.
نعمل بحكمة لإنهاء الانقسام
نعم نحن كفلسطينيين نمر بظروف عسيرة وعصيبة، ونعاني من حصار في غزة وفي القدس وفي بقية المناطق الفلسطينية، نعاني من ضائقة مالية شديدة، نعاني من ضغوط سياسية شديدة من قبل أطراف متعددة للاستجابة لخطط الحل النهائي، ولمنعنا من التوجه نحو المنظمات الدولية. إن أية خطة أمريكية مرتقبة، يجب أن تؤسس لدولة فلسطينية ذات سيادة عاصمتها القدس الشرقية، وعلى حدود العام 1967، وتضمن حقوق اللاجئين، وتزيل المستوطنات، أو أنها سوف ترفض فلسطينياً.
أكثر ما يؤلمنا في الواقع هو الانقسام الفلسطيني المقيت وتداعياته على مجمل البيت الفلسطيني وقضيته الوطنية، الأخطر أن هذا الانقسام بدأت بعض الجهات في توظيفه لإنشاء شبه دولة في غزة كخطوة لتمرير صفقة القرن الأمريكية، التي تعتمد على مبدأ فصل القدس وتوطين اللاجئين. إن القيادة الفلسطينية مدركة تماماً لهذه المخاطر، لذلك تسعى بهدوء لمعالجة الانقسام بحكمة وعقل لإنهائه، حتى نتمكن جميعنا كفلسطينيين من مواجهة الأخطار التي تهدد قضيتنا الكبرى بوحدة وطنية، ولهذا نحن نأمل أن نتمكن من إقناع الإخوة في حركة حماس للانضمام إلى المشروع الوطني، ليكونوا جزءًا من مواجهة لمشروع تصفية القضية الفلسطينية، وجزءًا من وضع آليات هذه المواجهة.
العرب يبحثون عن أمنهم القومي في الغرب
عن سؤال حول تأثير العلاقات العربية- العربية، والأزمة السورية، على القضية الوطنية الفلسطينية. ذكر السفير الفلسطيني أن واحدة من أهم مقومات استقرار وتطور العالم العربي هو توفر الأمن والأمان للمنطقة وشعوبها، لكن من الغريب أن العرب يبحثون عن أمنهم القومي خارج نطاق المنطقة العربية، إما في دول الإقليم أو في الدول الغربية. لا يمكن تحقيق الأمن العربي إلا برؤية وأدوات محلية عربية. والعجيب أننا نقوم بتقديم تنازلات للأخرين، فلماذا لا نقوم بتقديم تنازلات لبعضنا البعض، ولماذا لا يجتمع العرب سوية حول طاولة مستديرة لوضع استراتيجية تضمن أمنهم القومي، خاصة أن جميع الدول العربية- أنظمة وشعوباً ومقدرات- مستهدفة من بعض الدول الكبرى التي تسعى للهيمنة على المنطقة وفرض نفوذها.
لكن للأسف فإن شروط توحيد العرب غير متوفرة. فالعرب مشتتين على بعضهم وفيما بينهم، منقسمين على المستوى الوطني القطري وعلى المستوى القومي، ومنشغلين بالتناحر والفرقة، فيما يتم استنزاف ثروات الوطن العربي من الغرب، عبر وإشعال الحرائق المذهبية والعرقية، وافتعال الحروب، والإنفاق المبالغ في شراء الأسلحة، بدلاً عن استثمارها في إنشاء بنى تحتية لقاعدة اقتصادية.
لقد نجحت القوى الاستعمارية الغربية في زرع بذور الفتنة في المنطقة وإغراقها في الصراعات السنية- الشيعية، واشتباك عرقي بين العرب وبقية مكونات المجتمعات العربية، عبر إثارة الهوية القومية للأقليات العرقية. التي تهدف إلى إضعاف البنية العربية، وتفتيت ترابطها الداخلي، وضرب نسيجها الاجتماعي.
في سورية بدأت الحراك الشعبي برفع مطالب تتعلق بالديمقراطية والحريات، لتصل الحالة السورية إلى وضعها الحالي، بحيث أصبح العرب خارج المعادلة السورية، وليسوا لا عبين ولا مؤثرين ولا حتى أطراف في معالجة القضية السورية. وباتت الأزمة السورية قضية تجاذبات للقوى الدولية الكبرى، التي يسعى كل طرف فيها إلى ضمان تحقيق مصالحه على حساب دماء الشعب السوري، ووحدة الأراضي السورية.
وهنا لا أتحدث فقط عن التأثير الخارجي على القضايا العربية، ومن ضمنها القضية السورية، بل أعني أيضاً عدم وجود أي تأثير عربي في إجراء مقاربات للأزمات العربية.
مشروع الفوضى الخلاقة الأمريكي
استفاض الدكتور لؤي عيسى في الحديث عن مشروع الفوضى الخلاقة في المنطقة العربية. حيث أعلنت الإدارة الأمريكية عقب أحدث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول العام 2001 عزمها إقامة شرق أوسط جديد، ثم أصبح شرق أوسط كبير، ثم أكبر وموسع، وأعلنت في العام 2005 وزيرة خارجيتها "كوندوليزا رايس" استخدام مبدأ الفوضة الخلاقة لتحقيق الأهداف الأمريكية المتعلقة بنشر ما أسمته "الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان" في هذا الجزء من العالم. وإن علمنا أنه من أهم ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية أنها كلما عمدت على أنجاز مشروع، تقوم بتمهيد الأرض لإنجاحه، وبناء مرجعيات له، ثم تحديد الفاعلين الرئيسيين، ثم توكيلهم بالمهمة والتنفيذ والاحتضان. وهذا لا يتغير مع تغير الإدارات الأمريكية، لذلك ها هي نتائج الفوضى الخلاقة في المنطقة العربية في سورية والعراق وليبيا واليمين ومصر والسودان وفي عموم المنطقة.
الزعيم الجزائري الراحل هواري بومدين قال إن فلسطين هي الاسمنت الذي يوحد أطراف الجدار العربي، وهي الديناميت الذي يفجر هذا الجدار. ولأن العرب ابتعدوا عن القضية الفلسطينية فإن هذا الجدار قد انفجر، وتطايرت شظاياه لتصيب ليس فقط الدول العربية التي تدافع عن نفسها ووجودها ومصالحها، بل لتصيب أيضا الأحزاب العربية التي غرقت بالاصطفاف الأيديولوجي، وهذا ما صب في خدمة الصراع الجانبي الذي تخوضه قوى بعيداً عن ميدان المعركة الأساسي مع العدو الصهيوني، وهوما ألقى بثقله على البيت الفلسطيني، حيث يخوض الشعب الفلسطيني مع الكيان الصهيوني صراعاً وجودياً وليس صراعاً أيديولوجياً. إن الانقسام الفلسطيني سببته خلافات أيديولوجية وليست وطنية. إن السبب الرئيسي لوجود القوى الفلسطينية هو إزالة الاحتلال الصهيوني عن أرضنا، وليس هدفنا هو البحث في كيفية إقامة أنظمة شمولية. نحن في فلسطين لدينا أزمة الانقسام الذي نسعى لإنهائه بكافة السبل.
نعتقد أنه على الجانب الفلسطيني تقع مسؤولية وحدة الصف الفلسطيني، وخاصة على فتح وحماس، وعلى العرب أنظمة وشعوباً وأحزاباً أن تدعم الوحدة الفلسطينية. وإن أي تنازلات تقدم من جانب العرب تزيد من أزمتنا الداخلية. خاصة في ظل ظروف جميع العرب فيها مستهدفون، لذلك لا مفر من وحدتنا التي سوف تشكل السياج الذي يحمي مصالحنا وأمننا القومي. وعلى هذه الأرضية تبذل القيادة الفلسطينية والرئيس الفلسطيني محمود عباس كافة الجهود من أجل إقناع حركة حماس للانصياع للمصالح الوطنية وإنهاء الانقسام بما يضمن تصليب الموقف الفلسطيني، ضمن التحديات الوجودية التي تواجه القضية الفلسطينية.
نحن دعاة سلام واستقرار في المنطقة
حول سياسة الرئيس الأمريكي ترامب وإدارة الحالية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، أبدى السفير الفلسطيني تعجبه واستياءه من التصرفات الأمريكية، التي لا تنسجم مع كونها دولة عظمى تدعي أنها دولة المؤسسات والحرية وحقوق الإنسان، وتقدم نفسها راعية السلام والأمن في العالم، ومع ذلك فإنها تسلك درباً يخالف قرارات وتوجهات وأنظمة الهيئات الدولية، التي شاركت الولايات المتحدة بنفسها في وضع هذه الأسس والقوانين. وكيف أنها تهدد أي طرف إذا ما قام باللجوء إلى إحدى المنظمات الدولية.
نحن كفلسطينيين نشعر بالأسف من السياسات الأمريكية الأخيرة المرتبطة بقضيتنا، ونرى في هذه السياسات تهدد للسلام العالمي، وتهميش لدور الهيئات الدولية.
حين تقوم الإدارة الأمريكية بتوجيه تهديد واضح وعلني إلى المحكمة الجنائية الدولية، بفرض عقوبات على قضاتها إذا شرعوا في التحقيق في مزاعم عن جرائم حرب ارتكبها أمريكيون أو اسرائيليون، وتصف المحكمة أنها غير شرعية. هذه التصرفات والمواقف الأمريكية تجعلنا ننظر ونتابع بقلق شديد لما يجري في هذا العالم، الذي تزايدت فيه الصراعات الاقتصادية والحروب التجارية، والتصعيد العسكري المتواصل. نتمنى أن تراجع الولايات المتحدة سياساتها المرتبطة بالمنطقة، وخاصة منها ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، مراجعة تضمن قيامها والمجتمع الدولي إضافة إلى المنظمات والهيئات الدولية بدور وسيط فعلي وحقيقي في الصراع الفلسطيني الصهيوني، وألا تنفرد الولايات المتحدة بدور الوسيط، ويكفل احترام الولايات المتحدة للشرعية الدولية والقرارات الصادرة منها، بما يضمن الاستقرار العالمي، ووفق مبدأ الديمقراطية وحرية الدول في التصويت لمن تشاء وكيفما تشاء، دون الخشية من قيام أمريكا بفرض عقوبات عليهم.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس وبعد الضغوط التي مارستها الإدارة الامريكية على القيادة الفلسطينية، وبعد سلسلة القرارات والإجراءات التي اتخذتها الإدارة ضد مصالحنا، فقد أعلن أن أمريكا لم تعد وسيطاً محايداً بيننا وبين الكيان الصهيوني، بل أصبحت طرفا منحازاً بالكامل إلى جانب الصهاينة.
لذلك من حقنا أن نتوجه إلى العالم لنضعه أمام مسؤوليته التاريخية في تنفيذ قراراته التي أصدرها المتعلقة بالصراع الفلسطيني الصهيوني. لكن للأسف هذا العالم يصمت على كافة الجرائم التي يرتكبها الصهاينة على مرأى ومسمع منه، ولا يصدر منه إلا بعض عبارات التنديد الخجولة بين فترة وأخرى. ولم نسمع صوتاً لهذا العالم بوجه القوانين الجائرة التي تصدرها إسرائيل، خاصة قانون القومية العنصري الذي كرس الكيان الصهيوني كدولة تمييز فصل عنصري.
لكننا نقول للإدارة الأمريكية ولهذا العالم، أننا لن نخضع، وسوف نظل نسعى نحو السلام ونناضل من أجل تحقيقه. الرئيس الفلسطيني محمود عباس سوف يتوجه إلى الأمم المتحدة، وسيلقي خطاباً هاماً في 27 سبتمبر/أيلول الجاري، سوف يتضمن هذا الخطاب الرؤية الفلسطينية تجاه كافة القضايا موضع النقاش.
وأهم ما يقال في هذا السياق أننا كشعب فلسطيني مزروعين في أرضنا، ولدينا سبعة ملايين لاجئ لن يستطيع أحد أن يشطبهم، ولا أن يقوم بتوطينهم في أي مكان، ولا يمكن شراءهم ولا شراء القدس. ورغم انقسامنا الذي نخجل منه، سوف نستمر بالنضال من أجل السلام. ونحن هنا نستوحي ثقافة السلام من المبادرة التي تقدمت بها الجزائر في الأمم المتحدة وتم تبنيها من جميع الدول الأعضاء في الجمعية العامة، التي تنص على اعتبار يوم 16 مايو/ نيسان من كل عام "يوماً عالمياً للعيش بسلام".
سوف نعمل على تجاوز هذه المرحلة/الأزمة كما سبق وعبرنا من مراحل ليست أقل صعوبة. وسوف يظل الصوت الفلسطيني عالياً، وأملنا في تحقيق أهدافنا سلاحنا.
للجزائر بصمة فكرية ونضالية فلسطينياً
فيما يرتبط بروح المبادرة التي تقدم بها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة التي سميت "ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الجزائرية" في العام 2005، ومقاربتها مع الوضع الفلسطيني، أكد الدكتور لؤي عيسى، أن مشروع المصالحة الوطنية الذي بادر به الرئيس بوتفليقة قد نجح في إنقاذ الجزائر من مصير مأساوي، وتمكن من استعادة السلم والتماسك الاجتماعي للشعب الجزائري. وركز على أهمية الانحياز للمصالحة الوطنية التي سعت لتوفير الظروف الملائمة لتحقيق تطور اقتصادي وتنمية اجتماعية مستدامة في الجزائر. وأضاف السفير الفلسطيني أن قيام الشعب الجزائري باختياره الحضاري لإنهاء العشرية السوداء، كان يرفض الانقسام والفتنة.
لقد خطت الجزائر مراحل عظيمة بدءًا من العام 1999 للآن، لقد دفعت الجزائر حوالي مئتي ألف ضحية في أحدث التسعينيات الدامية، وتم تدمير الاقتصاد، وكثير من البنى التحتية للدولة، وتفكك الرابط الاجتماعي. فظهر الزعيم عبد العزيز بوتفليقة ليخاطب الجميع ويوحدهم كزعيم وقائد دولة للجميع، وتمكن من نقل البلاد من حالة الفوضى والاقتتال، إلى الحالة الحالية من الاستقرار والأمن الذي تنعم فيه الجزائر وسط منطقة تشهد صراعات ونزاعات إقليمية وتحدق بها المخاطر الكبيرة من كل صوب وحدب. وصل نار هذه الصراعات إلى الدول المجاورة للجزائر. منطقة تتنازعها مشاحنات وتناحر وصراعات وعراك بين قوى وأحزاب مختلفة، وبعضها استعان بالغرب فكانت النتائج اشتعال حرائق جديدة. بينما الجزائر قررت أن تعالج مشاكلها بنفسها وبأدوات وايادي جزائرية، وقد نجحت بذلك بتفوق. فكانت النتيجة الجزائر الحالية التي تشكل مشروع دولة كبرى في المنطقة والإقليم.
إن للجزائر بصمة فكرية ونضالية وعقائدية على الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، نتمنى أن تستلهم الدول الأخرى العبر من التجربة الجزائرية للمصالحة التي تستحق الدراسة، وخاصة في البيت الفلسطيني، الذي ما زال يعاني من الاحتلال الصهيوني. الخلاف في الرؤى ووجهات النظر أمر مشروع ومباح في إطار البيت الواحد، دون اللجوء إلى السلاح لفرض الأفكار والآراء.
الجزائر التي قدمت دروس كثيرة للعالم في النضال والمثابرة، وقدمت دورساً في المصالحة الوطنية، ما زال لديها الكثير من التجارب تستحق الدراسة والاستفادة من معانيها.
الثورة الجزائرية العظيمة غيرت مفاهيم العالم
فيما يخص مفاعيل الثورة الجزائرية العظيمة النضالية، وأثرها في الوعي الثوري الفلسطيني، ذكر السفير الفلسطيني أن ثورة التحرر الجزائرية عام 1954 بدأت بأربعمائة مقاتل، أصبحت بعد عام أربعة آلاف مجاهد. هذه الشرارة الجزائرية تركت أثرها الفوري ومباشر على الفلسطينيين الذين مضى على نكبتهم 6 سنوات، وكانوا مبهورين بقدرة بضعة آلاف من الجزائريين على خوض حرب عصابات في مواجهة مليون جندي فرنسي مدججين بالأسلحة الحديثة.
بعد أربع سنوات تأسست حركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح"، واستفاد الشباب الفلسطيني المناضل بصورة مهمة من التجربة الجزائرية حينذاك، وكانوا مأخوذين بسرية الوطنيين الجزائريين وقدرتهم على تشكيل جبهة وطنية صلبة ضد الاستعمار الكريه. بعكس عما كان سائداً في بقية الدول العربية الأخرى في اتباع أشكال الاحتجاجات والضغوط السياسية كي تحقق استقلالها. حتى الفلسطينيين راهنوا لبعض الوقت على قدرة العرب في تحرير فلسطين بعد أن يستكملوا مهام استقلالهم الوطني، لكن أثبت العرب عجزهم وفشلهم. لكن انتصار الثورة الجزائرية هز العالم وغير مفاهيمه، وكان لهذا الانتصار عميق الأثر المعنوي والتحريضي في الوعي الفلسطيني، الذي كان يعاني من الإحباط بفعل التخاذل العربي. فما كان حلماً للفلسطينيين أصبح إمكانية واقعية بعد انتصار الثورة الجزائرية.
ثورة التحرير الجزائرية قدوة للمناضلين الفلسطينيين
لذلك آمن الفلسطينيون بضرورة اعتمادهم على أنفسهم وتشكيل جبهة واحدة للعمل الثوري، وبالرغم من غزارة الدروس المستوحاة من التجربة الجزائرية، إلا أن المتغيرات التي واجهتها الثورة الفلسطينية وضعتها في تحديات خطيرة، لعل أبرزها خروج مصر من معادلة الصراع بعد وفاة عبد الناصر، بسبب اتفاقية كامب ديفيد، التي أدخلت المنطقة في دهاليز أوصلتها مرحلة جديدة فرضت معطيات ومفاهيم جديدة ومختلفة عما سبق، تركت بصمتها على تلك المرحلة وما بعدها، فوجد الفلسطينيين في الجزائر الحبيبة داعما ومسانداً.
لقد احتضنت الجزائر الثورة الفلسطينية منذ انطلاقتها ورفع زعيمها الراحل "هواري بومدين" شعار "نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة". هذا الشعار الذي لم يختلف عليه حزبان جزائريان, وبجهد جزائري دخل الزعيم الراحل ياسر عرفات مقر الأمم المتحدة أول مرة عام 1974. ثم فتحت الجزائر مكاتب وممثليات للفصائل الفلسطينية، وفتحت- وما تزال- أبواب جامعاتها ومعاهدها وكلياتها الحربية أمام الطلبة الفلسطينيين. وفتحت الجزائر إذاعة فلسطينية عام 1970، واستضافت المقاتلين الفلسطينيين بعد خروجهم من بيروت العام 1982. وبرمزية لافتة أعلن الرئيس الراحل ياسر عرفات العام 1988 استقلال دولة فلسطين من فوق أرض الجزائر الحرة.
وما زالت الجزائر للآن تتعامل مع الفلسطينيين كشعب وقضية وتقدم لهم كافة اشكال الدعم غير المشروط، ودون ان تتدخل بشؤونهم الداخلية.
نحن نعتز بالتجربة الجزائرية ونفتخر بها، ودروس الثورة الجزائرية ما زالت في عقولنا وقلوبنا، ونعتبر أنفسنا تربية جزائرية.
كل الشكر والتقدير للجزائر شعباً ودولةً وأحزاباً. كل الشكر والامتنان للرئيس الزعيم الأخ الأكبر عبد العزيز بوتفليقة، الذي ننظر له كأب لنا وأحد قيادات الشعب الفلسطيني. نشكرهم على كل ما قدموه ولا يزالون يقدمون الكثير من دعم ومساندة واحتضان -دون كلل أو ملل- للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
فلسطين هي الاسم الحركي للعروبة
في كلمته الأخيرة عبر الإذاعة الجزائرية، أكد الدكتور لؤي عيسى على إيمان الشعب الفلسطيني وقيادته بأنفسهم أولاً وبالأمة العربية وشعوبها ثانياً. وأضاف لدينا إيمان عميق بأن فلسطين هي الاسم الحركي للعروبة، وبأن دفاعنا عن فلسطين وعن المسجد الأقصى هو دفاع عن شرف وكرامة الأمتين العربية والإسلامية. وهو دفاعاً عن مستقبل الأمة العربية ووجودها وعن ثقافتها ودينها.
بالرغم من الآلام، ومما يخلفه أثر الحصار المفروض علينا، ومعاناتنا من الضغوط السياسية الهائلة، ومن حالة الانقسام، وبالرغم من وضع الأمة العربية المترهل، وحالة الإقليم المشتعل بمشاكله، وبالرغم من الوضع الدولي الغربي العاجز، والأمريكي الداعم للكيان الصهيوني، إلا أننا معنويات الشعب الفلسطيني وقيادته مرتفعة، والإرادة الوطنية صلبة. فالشعب الفلسطيني شعب عظيم جداً، وأكبر من فصائله، وهو شعب قادر على الصمود والاستمرار بالكفاح. نحن سنظل نخاطب الأمة العربية والعالم، بأننا دعاة سلام وعدل، ونفتخر ونعتز بديننا الحنيف وبثقافتنا العربية والإسلامية دون تشويه.
لن يرى أحداً في العالم دموع الفلسطينيين، ولن يسمع كائن صراخهم، لكن الجميع سوف يشاهد صمود الشعب الفلسطيني وإصرارهم على تحقيق أهدافهم، وإننا لمنتصرون. أنا أطلب من أهلنا في الجزائر، ومن الأحزاب الجزائرية، متابعة خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مقر الأمم المتحدة في 27 سبتمبر الجاري، هذا الرئيس الذي يواجه كل العالم، وقال لا للإدارة الأمريكية، رغم اننا لا نمتلك إلا إيماننا بالله وبقضيتنا الوطنية وبأمتنا العربية. فنحن لن نركع إلا لله تعالى وحده.
ونقول للأحزاب العربية والجزائرية أن تلتف حول فلسطين، وليس حول علاقات حزبية مع أحزاب فلسطينية. إن فلسطين عنوان انتصارنا أو انكسارنا.
وللأمة العربية نقول، ابحثوا عن أمنكم في منطقتكم وفيما بينكم، قدموا تنازلات لبعضكم وليس للآخرين. نحن في فلسطين صغاراً وكباراً، شعباً وقيادةً، فصائل ومنظمات، نقول لكم نحن أمناء على المقدسات، وسوف نظل ندافع عنها حتى آخر قطرة دم، وسوف نظل نشير لكم ونذكركم أن عدونا وعدوكم هو الكيان الصهيوني.
إيماننا كبير أن هذه المرحلة الصعبة التي نتعرض لها سوف تمر. وإيماننا أكبر أن الجزائر وفلسطين ستظلان دولتان متعانقتان.
الكاتب والباحثال فلسطيني حسن العاصي
تعليقات: